رمضان في شمال السودان.. خصوصية بطعم "الحلو-مر" !!

"الافطار في الشارع"

نشر في:

الروائح المنبعثة من البيوت الطينية المتلاصقة تعبق أجواء المدينة الصغيرة بمزيج البهارات قبل رمضان بما لا يقل عن شهر، تشي أن السيدات منهمكات في اعداد "الحلو- مر"، الذي يصنع عادة من عجين يتم تخميره، وبهارات عدة لتجفف شرائحه بعد ذلك، وتنقع في الماء البارد لتجهيز الشراب لاحقا. رائحة "الحلو- مر" هي المؤشر المبكر لقرب حلول شهر "الصيام" كما يطلقون عليه هناك.

"القولد"، مثلا، مدينة أميل للريف؛ ففي أنشطتها الاقتصادية، ونسيجها الاجتماعي تبدو كقرية كبيرة، لم يقاربها لعوالم المدينة إلا البنيات الأساسية التي خلفها الانكليز، وزاد عليها السكان مرافق جديدة أضحت بمرور السنوات معالم دالة إلى "مدنية" القولد وإن ألقت حقول النخيل والفول المصري والقمح بظلال كثيفة مؤكدة "قروية" القولد وطابعها الريفي.
لكن هذا الطابع الريفي يبدو مترسخا أكثر في المظاهر الاجتماعية لهذه المدينة الصغيرة التي ترقد على الضفة الغربية لنهر النيل، " 80 كيلومترا" جنوب دنقلا حاضرة المديرية الشمالية.
وفي رمضان من كل عام، تنغمس المدينة، المتريفة، في أنشطة حميمة تمازج بين الطقوس الدينية والاجتماعية خالقة خصوصية لشهر رمضان فيها. يعمد كبار السن خصوصا من السكان لتعقب الهلال في أيامه الأولى؛ ليتيقنوا من أن صومهم كان صحيحا، ويرفع الكثيرون منهم أيديهم للسماء بالدعاء بمجرد وقوع أبصارهم على الهلال الذي يسمونه "شهرا".
يبدأ اليوم الرمضاني بالنسبة للغالبية هناك في الساعات الأولى من الصباح لمزاولة الفلاحة، حيث يكون الجو مائلا للبرودة، ويميل الفلاحون لقضاء أشغالهم قبل صلاة الظهر؛ وهبوب الرياح الساخنة في الغالب ما لم يكن الوقت شتاء. وتستيقظ ربات البيوت كذلك في وقت مبكر ليتمكنّ من رعاية الدواجن والماعز التي غالبا ما تشاطر الريفيين بيوتهم الكبيرة.
و يتوجه غالبية الناس للصلاة في المساجد الحديثة أو الأخرى التقليدية ذات الطابع القديم المبنية من الطين والمعروشة بعروق وجريد النخل. ويقضي البعض وقتا طويلا في المساجد عوضا عن البيوت لقراءة القرآن، وحضور حلقات للذكر، والدروس الدينية حتى موعد صلاة العصر، وهو الوقت الذي يتوجهون فيه لأخذ قسط من الراحة. لكن عددا من كبار السن والشباب الذين يقطنون قريبا من سوق المدينة، يزجون الوقت بالحديث والتسلية أمام المتاجر وربما التبضع إلى أن تأذن الشمس بالغروب.

المشهد في هذا الوقت مؤثر جدا في كل قرى ومدن الشمال السوداني خصوصا، وفي السودان كله عموما، إذ يندر أن يخلو شارع من جماعات تفترش الأبسطة، وتضع الافطار منادية على عابري السبيل.
وما لم تخرج قبل الفطار بساعة على الأقل، يتعذر عليك غالبا أن تبلغ مكانا تقصده لتلبية دعوة خاصة للافطار، لأن دعوات "الشارع" التي تبلغ درجة القسم المغلظ لن تدعك في حال سبيلك.
في القولد، درج الناس على تناول الافطار في شكل جماعات، يتوجه جيران المساجد والخلاوي عادة إلى دور العبادة، هذه التي تؤوي في الغالب الغرباء وعابري السبيل. أما الغالبية فتوجد في الشوارع الواسعة التي تشبه الميادين، مكان ثابت منذ عشرات السنين للافطار وصلاة المغرب.
تفرش "البروش" –أبسطة مصنوعة من سعف النخل- والأبسطة القماشية قبل الغروب بنصف ساعة على الأقل، ثم يتوافد الصبية والشباب وهم يحملون طعام الافطار، والشاي والقهوة، ويلحق بهم قبيل الآذان بربع ساعة الشيوخ. وقد تفطر النساء أيضا جماعات. تمتد جلسات الافطار في الشارع إلى ما قبل صلاة العشاء بقليل. ويصلي الناس المغرب في الشارع بعد أن يكونوا قد أفطروا على تمر وماء.
لا يميل الناس هناك إلى الاكثار من الطعام في الافطار، ويكتفي الغالبية بـ"زاد قليل" كما يصرون على تسميته هناك، لأن رمضان لم يشرّع أصلا من أجل الاكثار في الأكل، وانما للاقلال منه بحسب رأيهم.
وتحوي المائدة الرمضانية صنوفا من الأطعمة التقليدية التي تقدم عادة في رمضان مثل العصيدة، فيما يحتل شراب "الحلو –مر" صدارة المائدة، متقدما على المشروبات الباقية التي يمثل الليمون والعرديب أهمها.
ويفضّل الصائمون أيضا "القراصة" وهي عبارة عن خبز سميك يوضع على طبق كبير ويغطى بـ"الويكة" أو الخضروات. ويحتل "الفول المصري" بالسمن البلدي والخبز مكانة خاصة لدى الناس هناك، علاوة على الحلويات المصنوعة في البيوت وأهمه: "اللقيمات" التي يطلق عليها أيضا "الزلابية".
وتمثل القهوة السوداء طقسا يكتسب خصوصية فريدة هناك، ففي غير رمضان يحرص الريفيون على تناولها مرتين يوميا: عند الصباح، وقبيل غروب الشمس. وعادة ما لا تكتفي الأسرة الواحدة بتناول القهوة بمعزل عن الآخرين، إذ توفر القهوة وطقسها المسائي خصوصا فرصة لتوثيق الأواصر، والتحدث في أمور شتى يغلب عليها الطابع الريفي، وهموم الفلاحة.

أما في رمضان فيصبح شرب القهوة جزءا متمما لطقوس الافطار. فبعد صلاة المغرب، يتجه الناس كبارا وصغارا لصب القهوة من وعاء فخاري مجمّر، له فتحة في الأعلى ويسمى "الجبنة" بفتح الجيم والباء والنون، ومن اسمه استمدت القهوة اسمها الشائع في السودان... "الجبنة".
يمضي الناس الوقت الذي يعقب الافطار في الشارع حيث أفطروا، ومع أن المدينة الصغيرة شأنها شأن غالبية القرى والمدن في شمال السودان، لا تشملها خدمات الكهرباء العامة، إلا أن الظلام الذي يخيم باكرا هناك يمثل بحد ذاته طقسا جميلا بالنسبة لهم. إذ لا حاجة لدخول المنازل، فالسمر الذي يعقب الافطار في الشارع، ويجمع الشيوخ بالشباب والصبية في الظلام، أروع في نظرهم من دون كهرباء.
بعد صلاة العشاء بقليل، والتي يؤديها الناس في المساجد الرئيسة في المدينة، يتناول كبار السن العشاء ليأووا إلى النوم باكرا ويستقبلوا غدهم بصلاة الفجر في موعدها. وهم يعتبرون "السهر" من علامات قلة مروءة المرء، وقلة تدينه، لأنه في الغالب يؤدي إلى تضييع الفجر.
أما الشباب، فكانوا في السابق يتوافدون على الأندية الرياضية القليلة التي تعني أيضا بالأنشطة الثقافية والاجتماعية. وكانت القولد فيما مضى حاضنة لواحدة من أهم المدارس "الوسطى" في شمال السودان، لذا كان رمضان كغيره من الشهور، تحظى لياليه بأنشطة ثقافية منوعة ومعمقة، تشمل الندوات الأدبية والدينية والمناقشات المفتوحة.
وكانت الأندية حينذاك تعتمد في ادارة وتفعيل هذه الأنشطة على الموظفين والطلاب النابهين، وبمرور الزمن استأثرت الأنشطة الرياضية على اهتمام أكبر في أوساط الشباب.
لكن الدراما التلفزيونية والبرامج الخفيفة بعد صلاة التراويح أضحت تزاخم الأنشطة الأخرى، حيث يتدافع الشباب لحضور التلفزيون في هذه الأندية على الرغم من امتلاك أعداد مقدرة منهم أجهزة تلفاز في بيوتهم، بسبب أن الأندية توفر "جوا اجتماعيا" يناسب رمضان.
وفي حين يستمر السهر أمام التلفزيون، أو في ممارسة الرياضة لغالبية الشباب، يحرص بعضهم على ارتياد المساجد لاقامة الليل مع قلة من الشيوخ الذين يأوي معظم للنوم باكرا.
ويحلو لبعض الشباب القيام بدور المسحراتي بعد اكمال السهر في الأندية، أو في جلساتهم على الرمال في الشوارع، خصوصا عندما يبدأ القمر في الاستدارة، مما يشكل لهم حميمية ريفية خاصة "ستدنسها" الكهرباء، برأيهم، فيما لو تسللت إلى قراهم ومدنهم التي تصالحت مع الظلام لقرون.