دراسة: الفرعونية بدون فرعون

الجمهورية الثانية.. بين توافق وطنى وصعود إسلامي

نشر في:

في هذه الدراسة يشخص المفكر المصري الدكتور عبد المنعم سعيد أهم إشكاليات المسار السياسي المصري بعد الثورة المصرية في 25 يناير، سواء في قراءة المشهد الانتقالي أو في التعاطي معه بالخصوص من قبل القوى الثورية أو الجماعات الدينية أو بقايا النظام السابق الذي لم يسقط كاملا، ولكن بقيت الدولة بمؤسساتها العسكرية والقضائية وغيرها، كما بقيت معارضتها. حتى الرئاسة التي أتت بينما لم يأت الدستور بعد والذي يستدعي انتباه مختلف هذه القوى.

مقدمة

بات مألوفا فى الخطاب السياسى المصرى استخدام تعبير "الجمهورية الثانية" للتدليل على مرحلة جديدة فى التاريخ المصرى الحديث. وإذا كان هذا التاريخ يمكن تقسيمه بين مرحلة "ملكية" وأخرى "جمهورية" فإنه جرى العرف على تقسيم المرحلتين بين "عهود" فيجرى التمييز ما بين عهد محمد على وإبراهيم باشا فى ناحية، وسعيد وإسماعيل من ناحية أخرى، وفؤاد وفاروق من ناحية الثالثة.

أما المرحلة الجمهورية فقد جرى التمييز فيها بيت عهود جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك. جرى التمييز إذن على أساس فردى ارتبط بشخصية الحاكم ومدى الحكم عليها بالنجاح أو الإخفاق، بينما كان واردا التمييز على أسس قانونية حيث تعددت الفرمانات والدساتير فى العهد الملكى والتى انتقل فيها الحاكم من كونه "واليا" إلى "خديوى" إلى "سلطان" ثم ملكا على مصر؛ بينا عاش عبد الناصر تحت دساتير متعددة؛ ورغم أن السادات وضع دستورا دائما إلا أنه عدله تعديلا جوهريا عندما غير من المادة الثانية من الدستور التى تخص علاقة الدين بالدولة، والمادة الخاصة بفترات حكم الرئيس؛ وسار مبارك على المنوال ذاته عندما عدل الدستور هو الآخر بطريقة ناسبت أحواله فى السلطة والحكم.

مفهوم " الجمهورية الثانية"

تعبير "الجمهورية الثانية" يعكس اللحظة الراهنة من التغيير الجارية فى مصر بعد ما سمى ثورة يناير 2011؛ وهو يعنى أن ما يجرى حاليا لا يعنى إقامة دولة أخرى نجمت عن تقسيم أو اتحاد كما حدث عندما انتقلت الولايات المتحدة من الاتحاد الكونفيدرالى إلى الاتحاد الفيدرالى؛ أو مثلما جرى للنمسا بعد أن انقسام الإمبراطورية النمساوية المجرية وتحولها من دولة كبرى إلى دولة صغيرة حتى ولو باتت أكثر غنى بفعل الديمقراطية والثورة الصناعية.

كما أنه لا يعنى فى الوقت ذاته انقلابا على أساس النظام السياسى القائد فى البلاد حينما تنقلب الدولة من النظام الملكى إلى الجمهورى كما حدث فى بلدان كثيرة؛ أو كما حدث فى أسبانيا عندما عاد النظام الملكى بعد عقود من حكم فرانكو الذى أقام نظاما فاشيا دام من الثلاثينيات إلى السبعينيات من القرن الماضى.

التعبير من جانب آخر يشير إلى نقلة كيفية فى نظام الحكم وطريقة إدارة الدولة حتى ولو كانت الاستمرارية قائمة كما نوهنا. وهو مشتق فى الحقيقة وذاع صيته من التجربة الفرنسية التى تقلب بها الزمان حتى شهدت خمسة جمهوريات منذ عصف الفرنسيون بالباستيل فى 14 يوليو عام 1789 وجرى وضع رأس الملك لويس السادس عشر وزوجته مارى أنطوانيت تحت المقصلة فى عام 1793.

المهم أنه فى خضم الثورة والعدوان الأجنبى أعلنت الجمهورية الفرنسية الأولى فى 22 سبتمبر 1792. ولكن العمر لم يستمر طويلا بهذه الجمهورية حتى حولها نابليون بونابرت إلى إمبراطورية (1804-1815) حتى جرت هزيمته فى ووترلو وعادت ملكية أسرة البوربون التى لم تتعلم كثيرا فجاءت الثورة الفرنسية الثانية عام 1848 وساعتها قامت الجمهورية الفرنسية الثانية، ولكنها لم تستمر طويلا هى الأخرى فقد عاد إمبراطورا نابليون الثالث إلى الحكم فى عام 1852.

ولكن الإمبراطورية انهزمت مرة أخرى فى الحرب الفرنسية البروسية فقامت الجمهورية الفرنسية الثالثة واستمرت فى الحكم حتى هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية فقامت على إثرها الجمهورية الرابعة التى فشلت فشلا ذريعا فى إدارة العلاقة مع مستعمراتها والعملية الخاصة باستقلالها فكانت الهزيمة أمام ثوار فيتنام والجزائر. وبينما تترنح فرنسا من الهزائم جاءها المنقذ دائما تشارلز ديجول الذى كان أحد أبطال الحرب العالمية الأولى والثانية لكى يقيم الجمهورية الخامسة التى قوت مركز رئيس الجمهورية فخلص فرنسا من مستعمراتها، وضعفها، وجعلها دولة نووية وذات صوت بين دول العالم.

هذه الجمهورية هى المستمرة معنا حتى اليوم، وقد تعمدنا متابعة التاريخ الفرنسى فى هذا الأمر حتى يأخذ الكثيرين من المعجبين بالتجربة الفرنسية، وبالذات المدرسة القانونية المصرية والعربية، الدروس والعبر وأهمها أن التاريخ الفرنسى ممتلئ بالاضطراب والضعف، كما أن الخلاص من كلاهما جاء من خلال قيادة قوية لم تكن فقط فى الشخص وإنما كانت فى منصب الرئاسة ذاته.

وهو أمر يجب أن يؤخذ فى الاعتبار عندما الاهتمام بالقضية المحورية الهامة لمستقبل مصر وهى وضع الدستور الخاص بالجمهورية المصرية الثانية ، ولا تحتاج تجربة تاريخية من الضعف والهوان حتى نصل إلى الجمهورية الخامسة كما جرى فى فرنسا، وهو المشكلة المستمرة قبل وبعد انتخاب الرئيس الحالي الدكتور محمد مرسي في 16، 17 يونيو سنة 2012.

فالحقيقة أن الدساتير وحدها ومهما جاء فيها من حريات وسيادة للشعب ومساواة وعدالة بين الأفراد لا تكفى وحدها لإقامة الجمهورية إذا ما كانت يد السلطة ضعيفة، والبلاد تعيش فى حالة اضطراب دائم، أو تتعرض بسبب هوانها وفقرها الداخلى إلى الضغوط الخارجية أو حتى للغزو من أعدائها. التجربة الفرنسية لا شك شاهد على ذلك عندما انهارت الجمهورية- البرلمانية- وراء الأخرى بسبب الاضطراب الداخلى والغزو الخارجى والهزائم الكثيرة رغم الديمقراطية والحريات المتعددة التى سادت فى هذه الجمهوريات. بل أن جمهورية فيمار الألمانية- 1919 إلى 1933- كانت مثالا قويا على سلطة البرلمان والحريات العامة، ولكنها انتهت فى النهاية للوقوع فى يد الفاشية التى قادت ألمانيا إلى حرب عظمى هزمت فيها وانتهى الأمر بتقسيمها حتى استقلت مرة أخرى عام 1955 واتحد شطراها الشرقى والغربى فى 1990 ليس فقط بفضل نظامها الديمقراطى وإنما أضيف إليه أسباب أخرى اقتصادية واجتماعية وإستراتيجية ليس هنا مكان الخوض فيها.
التجربة المصرية
ولماذا نذهب بعيدا والتجربة المصرية ذاتها شاهدة على دروس كثيرة، حيث قامت الجمهورية الأولى فى أعقاب ديمقراطية ليبرالية مغدورة فى ظل نظام ملكى واحتلال أجنبى. ولكن هذه الجمهورية اعتمدت على سلسلة من الدساتير الذى أخذت شكل الإعلان الدستورى والدساتير الدائمة حتى باتت تربط النظام السياسى فى سلسلة لا يبدو فيها فارقا كبيرا بين دستور عام 1956 و1971.

هذا النظام السياسى الذى قام على السلطة الطائلة لرئيس لجمهورية والحزب الواحد أو الحزب القائد استمر لستة عقود تقريبا جرى فيها احتلال الأرض المصرية مرتين، وتحريرها مرتين أيضا، وما بين الاحتلال والتحرير دفعت البلاد ثمنا طائلا من الدماء والمال، والتخلف عن أقرانها من الأمم، والاعتماد على الخارج، وقبل ذلك وبعده العيش فى حالة من الخوف الدائم من الخارج الذى خلق حالة داخلية يغلب عليها عدم الثقة بالنفس والحاضر والمستقبل.

"الجمهورية الثانية" ليست فقط دستورا على أهميته وخاصة فيما يحتويه من قوة الحريات العامة، وأن يكون الشعب مصدر السلطات، وما يعطيه للسلطة التنفيذية من قدرات ونزوع إلى الكفاءة فى إدارة الموارد القومية؛ ولكن "الجمهورية الثانية" تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك متجسدة فى مناخ سياسى، وآخر اقتصادى، يأخذ بيد الدستور والبلاد إلى بر الأمان أو باختصار إلى صفوف الدول المتقدمة. وببساطة فإننا لا نحتاج إلى جمهوريات خمس مثل فرنسا حتى نصل إلى مرفأ الديمقراطيات الصناعية ذات الشأن فى عالمنا.

ولكن ما تحتاجه مصر هو أمران يعدان من أكبر المهددات للديمقراطية: أولهما لغة الخطاب السياسى التى تحدد "المناخ" الذى يبعث على الاطمئنان والسكينة والتفكير المعتدل الذى فيه خير البلاد. هذه الفضيلة مطروحة منذ كان هناك فكر سياسى، ووجد أفلاطون أن "الشعبوية" و"الديماجوجية" هما من آثام الديمقراطية، ولم تكن هناك صدفة أن اسبرطة الديكتاتورية انتصرت على أثينا الديمقراطية مهما تعددت فضائل هذه الأخيرة التى عددها "بركليس" فى خطابه التاريخى الشهير.

الديمقراطية تنجح فقط عندما تقوم على الحوار بمعنى التداول فى الحجة قبل السلطة، والأخذ والعطاء، ومراعاة المصالح المختلفة، وعندما تستخدم فيها ألفاظ لا زاعقة ولا حريفة المذاق أو زاعقة التأثير. وفى الحقيقة لم يحدث أبدا أن أقيمت ديمقراطية ناجحة فى الميادين العامة التى يكون لها فضل نجاح الثورات، أما نجاح الديمقراطية فهو أمر آخر، وله مكان مختلف. وما جرى فى مصر منذ نشوب الثورة من سياسة ميدان التحرير لم يساعد كثيرا فى تحقيق التوافق القومى على أمور بالغة الأهمية سوف تحتاج قرارا مجتمعيا عندما يأتى أوان كتابة الدستور، وهو أوان ليس ببعيد.

وعلى العكس جرت عمليات استقطاب بين الثوار مرة، وبينهم وبين المجلس العسكرى مرة، وبينهم وبين الأهالى مرة ثالثة؛ وهو استقطاب حمل فى جوانحه نزعة تصادمية أخذت الجميع بعيدا عن سيادة القانون الطبيعى وجرى تبادل الاتهام بالتخوين والعمالة دون دليل أو برهان. مثل هذه الحالة المتوترة لا تخلق دستورا عاقلا وفاعلا، وتجعل حلم أن تكون "الجمهورية الثانية" هى الجمهورية الأخيرة بعيدا، لأن ما نزرعه الآن سوف نحصده بالتأكيد غدا.

الديمقراطية لا تنجح ثانيا إذا جرى تطبيقها إذا اجتمع نظامها البرلمانى مع اقتصاد منهار، فساعتها يكون الطلب أكثر بكثير من العرض، ولا يوجد بين القوى السياسية من لديه شجاعة اتخاذ القرارات الاقتصادية الصحيحة والتى لا تخضع لنفاق الأمة، أو محاولة الضحك على الشعب بوعود براقة. وللأسف فإنه ليس ذائعا كثيرا الحالة التى وصل إليها الاقتصاد المصرى؛ وإذا ذاع فإنه ليس مهتما بنتائجها أو مدى تأثيرها على مولد الديمقراطية و"الجمهورية الثانية"، وإنما بإلقاء المسئولية على أطراف أخرى.

وبغض النظر عن المسئول فإن الثابت هو أن الناتج المحلى الإجمالى قد انكمش خلال الربع الثالث-يناير وفبراير ومارس- من العام المالى 2010/2011 بنسبة 4.2% مقارنة بزيادة قدرها 5.4% خلال الربع المقابل فى العام السابق. وإذا كان ذلك سببا مقبولا للثورة والحرية فإن استمرار الأوضاع غير مقبول، فخلال الربع الرابع غادر مصر ما يقرب من 17 مليار دولار، وانخفض الاستثمار الخارجى بنسبة 90.4% خلال ستة شهور مقارنة بمثيلاتها فى العام السابق، ومع هذا وذاك انخفضت نسبة التشغيل ومعناه زيادة البطالة.

ولكن الخطير فى الملف الاقتصادى فهو تغير النظرة إلى القضية الاقتصادية ككل وفى اتجاهات إما ثبت فشلها فى السابق؛ أو أنها تمثل تجاهلا لما جرى فى الاقتصاد العالمى من متغيرات؛ فالمسألة أكثر عمقا من ذلك لأنها ترتبط بتغيرات هيكلية فى الاقتصاد المصرى. أولها تغير وجهة النظر القائمة على تشجيع اقتصاد السوق إلى الحديث عن مزيد من تدخل الدولة سواء من أجل مزيد من التوزيع وهو ما أدى إلى استنزاف الموازنة العامة والاحتياطى القومى من 36 مليار دولار إلى 15 مليار خلال أربعة عشر شهرا من الثورة، وإلى تعيينات حكومية بلغت 450 ألف موظف جديد، وهناك وعودا بإضافة نصف مليون خلال الفترة المقبلة.

وثانيها أن الاستثمارات الداخلية أو الخارجية لا تستطيع أن تعمل بينما يمكن لكل من يريد أن يرفع العلم المصرى ويهتف بشعارات ثورية وبعدها يقوم بقطع الطرق والسكك الحديدية وتعطيل قلب العاصمة والمحافظات بمظاهرات مليونية. وثالثها أن الحديث المتكرر من قبل قادة مصر المحتملين عن طرح معاهدة السلام مع إسرائيل للاستفتاء الشعبى أو إلغائها بعد إجراء الاستعدادات المطلوبة للحرب ليس دائما مما يطمئن أو يدفع رأس المال سواء كان الأجنبى أو العربى أو المحلى لكى يندفع على طريق الاستثمار.

ورابعا أن جيلا كاملا من رجال الأعمال، وطبقة المنظمين، وأصحاب المهارات التكنولوجية والدولية العالية إلى جانب لا بأس به من أفضل المسيحيين المصريين فى طريقهم إلى الخارج إلى بلاد الله الواسعة. ومن المعروف أن هذه الشريحة الاجتماعية كانت هى التى بنت 23 مدينة مصرية خلال العقدين الماضيين، ومعهم مشروعات عملاقة مثل مكتبة الإسكندرية وصناعات الحديد والصلب وصناعات النسيج القابلة للتصدير وغيرها من عمليات التراكم الرأسمالى خلال الفترة الماضية.

الدولة المستمرة والثورة الدائمة

كان وراء الحالة المصرية من عوار اللغة الثورية والتراجع الاقتصادى توترا قائما منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام مبارك. فلم يمض وقت طويل على الهتاف الذى قال أن "الجيش والشعب أيد واحدة" حتى بدأ التوتر بنمو بينهما، ليس تحت اسم الجيش ولكن "الدولة" وليس تحت اسم "الشعب" ولكن تحت عنوان "الثورة". وكان لا بد من تناقض، الدولة بطبيعتها هى النظام والقواعد والمؤسسات والرؤية الشاملة لكل جوانب القضية، والوطن أيضا من شماله إلى جنوبة ومن شرقه إلى غربه؛ أما الثورة فهى ثورة على كل شىء بلا نظام لا خطوات ولا قواعد وإنما هى انقلاب كل شىء رأسا على عقب عسى أن ينتهى الانقلاب بتغير الأحوال إلى الأفضل.

وفى الحادى عشر من فبراير 2011 لم تسقط الدولة المصرية ولكن بقى منها أهم مؤسساتها وهى القوات المسلحة، والقضاء، والبيروقراطية، وكل منها يعض بالنواجز على الدولة المصرية على أن يكون تغييرها من داخلها وليس من خارجها، ووفق خطوات معلومة ومحسوبة تأخذ وقتها وزمنها. الثورة على الجانب الآخر كانت منذ البداية عدة ثورات متداخلة؛ كانت ثورة الشباب التى افتتحت الثورة وخلبت الألباب، ولكنها هى الأخرى كانت ثورة المعارضة خاصة الإسلامية التى ناضلت لسنوات طوال ضد حكم مبارك وكان معظمها خارج النظام، ولكن بعضها كان من داخله أيضا، وهى أخيرا ثورة الحركات الاحتجاجية الفئوية التى تريد أن تأخذ "حقها" حتى لو سقطت المؤسسات العامة فوق رؤوس أصحابها. فئات الثورة الثلاث لم تكن متسقة مع بعضها البعض، بل أنه داخل كل شريحة كانت توجد تناقضات شتى، وكانت الحصيلة لا قيادة ولا توجه، ولا اتجاه.

وجاء الحل ثلاثيا: يكون التغيير من رحم الدولة، ويكون ثوريا من خلال قيادة من "ميدان التحرير" يختارها الثوار الذين وقع اختيارهم على الدكتور عصام شرف الذى اختار وزراء من نفس النوعية "الطيبة"، ويؤمن العملية كلها من الأشرار المجلس العسكرى فيحافظ على الدولة مباشرة أو من خلال وزارة الجنزورى ويحمى الثورة ممن هم خارجها، ومن داخلها أيضا. هذا الترتيب كان فيه عوار كبير تسبب فى مليونيات نتج عنها سقوط ضحايا ولكن أهم ضحاياها كان الاقتصاد القومى الذى رفض الثوار تحمل مسئولية سقوطه. ولم تكن الوزارة أبدا مهمة جماعة المتمتعين بالطيبة والسماحة ولكنها الكفاءة والقدرة على ممارسة السلطة وقول الحق فى وجه الدولة وقبلهم الثوار. أما المجلس فلم يصدق أبدا أن السياسة حرفة وعلم وتدريب على مواجهة التناقضات. وكانت النتيجة توترا شديدا على مدى الشهور التى تلت نشوب الثورة عكس إشكاليات وتحديات كبرى كما عكس ميل جماعة من الثوار إلى العمل على استمرار الثورة حتى تحقق أهدافها التى لم يجر أبدا تحديدها على وجه الدقة؛ وميل الدولة إلى استكمال شرعيتها عن طريق الانتخابات العامة من تلك التشريعية وحتى الرئاسية مع وضع الدستور الدائم فى نفس الوقت.

بين المدنى والدينى

أسفر هذا التوتر الزائد فى مصر عن انتصار تدريجى للدولة، فرغم الوهن الذى اعترى أوضاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فإن استكمال انتخابات مجلسى الشعب والشورى وتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور والبدء فى إجراءات انتخاب رئيس الجمهورية، كل ذلك نقل السياسة المصرية من الشارع حيث الجمهور العام للثورة إلى المؤسسات والإعلام والمنظمات والأحزاب السياسية المختلفة. هذا الانتقال أعطى ثقلا خاصا للأحزاب والحركات الدينية الإسلامية التى نجحت فى الحصول على أغلبية ساحقة قلبت أوضاع اللعبة السياسية فى مصر.

ومنذ قامت الثورة، ورغم تكرار كلمة التوافق، فإنه لم يكن هناك توافقا على شىء يخص المستقبل المصرى. كان هناك اتفاق مؤكد، وليس توافقا، على سقوط النظام السابق، ولذلك كانت الثورة، أما ما سوف يأتى بعدها فقد كانت هناك رغبات غامضة فى دولة ديمقراطية عصرية مدنية لدى أقلية؛ وقرارات حاسمة قطعية لإقامة دولة ذات مرجعية إسلامية أيا كان معنى ذلك ما بين النموذج التركى وحتى النموذج الطالبانى الافغانى.

لم يكن هناك توافق أبدا لا على هذه الناحية أو تلك، ولا كانت هناك آليات سياسية للعمل فى هذا الاتجاه داخل التيارين؛ وكان هناك ضغطا مستمرا من أجهزة الإعلام على أن يكون الحل الذى يتضمن تنازلات من نوع أو آخر أمام الكاميرات وبالصوت والصورة. والغريب فى الأمر أن ظروف مصر المتدهورة فى الأمن والسيادة والاقتصاد لم تدفع أحدا للتفكير بطريقة مختلفة؛ ولا كان طحن الخزانة العامة واستنزافها من قبل "الفئويات" المختلفة سببا للمراجعة؛ وحتى عندما أفرزت الظروف كارثة مثل تلك التى حدثت فى بورسعيد نتيجة مباراة فى كرة القدم، أو كوارث مثل التى حدثت فى سيناء، لم يظهر أن أحد على استعداد لمغادرة موقعه.

نتيجة ذلك كله أن أصبحت السياسة تعبيرا عن توازن القوى، وأصبح سلاح الأغلبية هى ممارسة أغلبيتها فى وضع النظام الذى ترتضيه؛ أما الأقلية فإن سلاحها الدائم هو الانسحاب تحت وهم أن ذلك سوف يحرم العملية كلها من شرعيتها. والحقيقة هى أنه لا شرعية فقدت، ولكن سيطرة وهيمنة زادت، وضاعف صاحب الأغلبية أغلبيته ووجد الساحة أمامه مفتوحة. الأخطر من ذلك فى الحالة المصرية أن الأقلية المدنية وهى تنسحب وتشن حملاتها المتواصلة على حزب الحرية والعدالة دفعته دفعا نحو أحضان حزب النور، وفقد المعتدلون والليبراليون ورجال الأعمال والشباب منطقهم فى الحزب فى العمل على بناء الجسور المفتوحة مع الأقلية المدنية.

هذا التحول من البحث عن توافق مستحيل، إلى ممارسة السياسة من خلال توازن القوى، ظهر بشدة فى تكوين الجمعية التأسيسية للدستور، وفشل المجلس العسكرى فى "التوفيق" بين المطالب المتعارضة للأغلبية والأقلية، كما ظهر أيضا من خلال الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية حينما رشحت جماعة الإخوان المسلمين، رغم وعودها السابقة، السيد خيرت الشاطر، واندفع إلى الساحة السيد عمر سليمان ممثلا للدولة وحتى النظام القديم أيضا بينما قوى الثورة تحاول أن تخلق نظما موازية للبرلمان وقيادة الدولة، وبينما التنظيم هو الذي يكسب في النهاية.. سواء كان تنظيم الدولة أو تنظيم جماعة سياسية أخرى.

خاتمة: الفرعون والفرعونية

صك علماء السياسة والدارسين للشرق الأوسط مفهوم "الدولة الفرعونية" لكى يضيفوا نمطا آخر من أنماط الدول الاستبدادية التى تقف جنبا إلى جنب مع مفاهيم أخرى مثل "الاستبداد الشرقى" و"نمط الإنتاج الآسيوى" و "الدولة البيروقراطية" إلى آخر ما ذاع من مفاهيم. ومع ذلك فقد كان للدولة الفرعونية تميزها، لأنها دولة "هيدروليكية" تقوم فيها مركزية توزيع المياه والتى لولاها لقام المجتمع على النزاع والصدام. وفيها فإن "الفرعون" هو حالة وسطية ما بين البشر والآلهة؛ ولأنه كذلك كانت فكرة "الخلود" ممكنة من خلال تحنيط الجسد والاحتفاظ حتى وقت آخر سوف يأتى حتما. ولذلك فإن "الدولة الفرعونية" تقوم على هرمية شديدة التعقيد يوجد فيها الفرعون على القمة ويحيط به "الكهنة"- أو المثقفين فى عصرنا الحالى- ومن بعدهم الكتبة أو البيروقراطية التى تنظم شئون الدولة والعباد.

ومع كل سماتها المميزة فإن الدولة الفرعونية تظل ضمن ذلك الفصيل من الدول الاستبدادية حتى ولو كان فرعونها محبوبا قليلا؛ أو يشعر مواطنيه بأن لديه دورا يؤديه فى حماية الدولة والمواطنين. وربما لم تكن هناك صدفة أن يصر الرئيس أنور السادات أنه "آخر الفراعنة" و"رب العائلة" المصرية. ورغم أنه ثبت وجود فرعون آخر على الطريق تعرض فى نهاية حكمه للمحاكمة وليس الاغتيال فإنه ظل حتى آخر لحظة متعجبا من عدم إدراك شعبه لما أداه له من خدمات حتى نقله من حالة إلى أخرى أكثر تقدما ورفعة.

"الدولة الفرعونية" بالتأكيد تأثرت بالتاريخ المصرى الطويل الذى لم يعرف طوال فترات التاريخ إلا الاستبداد وحكم الفرد الواحد. ورغم أن الثورة المصرية فى يناير 2011 جاءت لكى تقضى على "آخر الفراعنة"، إلا أن الاجتهاد فيما جد بعدها وعلى مدى عام كامل طرح إمكانية الفصل ما بين "الفرعون" و "الفرعونية". والمعنى هنا أنه بينما يشير "الفرعون" إلى طاغية بعينه له اسم ورسم؛ فإن "الفرعونية" هى ظاهرة مكتملة تقوم على طقوس، وعلى ترتيبات مجحفة فى علاقة الحاكم والمحكوم.

ومثل ذلك يمكن تصوره كنتيجة من نتائج "الربيع العربى" التى لا يبدو أن "الديمقراطية" سوف تصير حكمها النهائى. فالحاصل أن الجماهير الثورية فى مصر وتونس وليبيا رغم أنها ترفع الحرية شعارا، إلا أنها ليست دائما على استعداد لترجمة هذه الحرية إلى واقع إجرائى وقانونى تعيش فى ظله الجماهير وتمارسه فى حياتها اليومية. وربما ليس صدفة أن ارتفاع وتيرة العنف داخل المجتمعات العربية ارتبط باتساع نطاق الحديث عن "الحريات العامة" و"الشخصية" حيث زاد الضغط على المرأة والأقليات فى العموم. ورغم ما أظهره "ميدان التحرير" من روح للتسامح إلا أنه سرعان ما شبت الحرائق فى الكنائس وسقط قتلى لأن دينهم ليس دين الأغلبية؛ وأعقبه حالات للقتل الجماعى دون سبب مفهوم كما جرى فى بور سعيد فى أعقاب مباراة لكرة القدم.

"الفرعونية"، حتى بدون "فرعون"، يمكن فهما من زوايا عدة؛ فهى من ناحية تعبير عن "طغيان الأغلبية" وهو تعبير ليس شائعا فى البلدان العربية رغم كونه جزءا هاما من الأدب الديمقراطى حيث تعد حقوق الأقلية- السياسية أو غير السياسية- جزءا لا يتجزأ من النبراس الديمقراطى. فلا تستطيع أغلبية أيا كان عددها أن تقتل نفسا بغير حق، أو تحرم إنسانا من حق التعبير، أو تقف دون تمتع فرد بحرياته الدينية. ومع ذلك فإن الأغلبية العددية يظل لها قدرة ضاغطة، وهى تمارسها بمجرد الوجود، وما لم يعمل النظام السياسى على التخفيف من غلوائها فإنها تتحول إلى ديكتاتورية أو شمولية صريحة حتى ولو كانت تجرى انتخابات دورية لا تنتج بالضرورة فرعونا بعينه، ولكنها تنتج حالة فرعونية بعينها هى الاستبداد.

هنا فإن استخدام الأغلبية لقدراتها العددية ربما ترتب حالات من الخوف الذى يشكل وضعا بعينه، ويمنع أوضاعا أخرى من التشكيل حتى ولو كانت أكثر جدارة. ولكن بعد طغيان الأغلبية غالبا ما يولد بعدا آخر وهو القدرة على العنف خاصة عندما يجتمع العدد مع الثورة أو الحرمان الشديد، وبينما الأولى تعطى إحساسا بالقوة، فإن الثانية تولد ما يكفى من الكراهية، وكلاهما يولدان أشكالا من حب السيطرة والرغبة فى الهيمنة تقود إلى ممارسة العنف ضد الأضعف والأقل حيله.

والآن فقد مضى عام على الثورات العربية، وهى على اختلاف أشكالها وظروفها تبدو فى حالة من المجاهدة مع الفكرة الديمقراطية فى العموم؛ وفى بعض الأحيان فإن هناك صراعا صريحا معها. ولم يكن ذلك فقط نتيجة وجود لحركات الإخوان المسلمين التى يبدو أنها باتت على استعداد للقبول بالشكل الإجرائى للديمقراطية، والتأكد من أنها لن تولد فرعونا، إلا أنها لم تجد معضلة فى ممارسة الأغلبية التى تتمتع بها داخل البرلمان من ناحية، والتجاهل فى التعامل مع استخدام العنف ضد الأقليات. ولكن الخطوة التى قطعتها جماعة الإخوان إلى الأمام، فإن جحافلا سلفية وجهادية ظهرت على الساحة وباتت تعبر عن رأيها دون مواربة داعية إلى دولة أيدلوجية خالصة، ولها خليفة أيضا بعد فترة زمنية لم يتم تحديدها. فى هذه الحالة فإن السلفيين يقدمون "الباقة" كاملة فيها "الفرعون" و"الفرعونية" معا
.
كيف يمكن الخروج من هذا المأزق خاصة وأن الجماهير الثورية رغم ندائها بالحرية والعدالة والكرامة إلا أنها لا تضع "الديمقراطية" جزءا من ميثاقها، بل أن البشائر الأولية تدل باستعدادها للتمرد على ذلك القدر المحدود من الديمقراطية الشكلية وكأنها تستعجل لقاء الفرعون بالفرعونية رغم أن الفصل بينهما كان واحدا من أهم إنجازات الثورات؟ وللحق فإنه لا يوجد حل مباشر لهذه القضية، وفى التاريخ الغربى فإن ذلك جرى من خلال سلسلة من الثورات المتتابعة، وبعضها جاء من خلال ارتفاع مستويات التعليم والتكنولوجيا والتصنيع، وبعضها الآخر جاء من خلال صراع ثورى تمرد أحيانا على الفوضى. ولم تكن "الديجولية" ومولد "الجمهورية الخامسة" إلا ترجمة لمثل ذلك. وفى مصر الآن يجرى الحديث عن "الجمهورية الثانية" ويبدو أن أمامنا طريق طويل للغاية.