الصراع الكردي - التركي بين الحلّ السلمي وتجدد دورة العنف

نشر في:

لكل حربٍ سلامها الذي تنتهي به. ولكل صراع خلفيّاته وحوامله، ودوافع وتبعات استمراره، والعوائد السياسيّة والاقتصاديّة الناجمة عن توقّفه. الصراع الكردي – التركي، يمتدّ بجذوره إلى نهايات الدولة العثمانيّة، مع انتفاضة عبيدالله النهري سنة 1880، ثم تلتها انتفاضات البدرخانيين في جزيرة بوطان. وتفاقم الصراع مع ولادة الجمهوريّة التركيّة على يد مصطفى كمال أتاتورك (1881 – 1938)، وتعمّق واتسع نطاقه مع انطلاقة حزب العمال الكردستاني PKK نهاية عام 1978. ما يعني أن الصراع الكردي – التركي هو الأطول من نوعه ليس في الشرق الأوسط وحسب، بل في العالم.

وخلال فترة الصراع هذه، عاش كرد تركيا فترة مظلمة وقاتمة، قوامها القمع والترهيب والصهر والانكار والتذويب العرقي في بوتقة القوميّة التركيّة، وصلت بالكرد إلى التنكّر لأصلهم ولغتهم وثقافتهم وهويّتهم القوميّة.

وفي هذه الأيّام، تجري أنقرة مفاوضات مع زعيم العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، المسجون في تركيا إثر اختطافه من العاصمة الكينيّة نيروبي في 15/02/1999. والإعلام التركي مطبول بهذه المفاوضات وما يمكن أن يتمخّض عنها.


أثناء ذلك، اغتيل ثلاث ناشطات كرديّات في العاصمة الفرنسيّة باريس ليلة 09/01/2013، هنّ ليلى سويلمز وفيدان دوغان وسكينة جانسيز. والأخيرة، إحدى القيادات النسائيّة البارزة في الكردستاني، ومن مؤسسه. هذا الحدث، ألقى بظلال الخوف والقلق على التفاوض بين أنقرة وأوجلان، فازدادت التحليلات والتكهّنات حول عملية السلام، وهل ستتكلل بالنجاح؟


هذه الدراسة، تدور حول جذور وخلفيّات الصراع الكردي – التركي، والعوائد السياسيّة والاقتصاديّة التي ستحصدها تركيا وحكومتها، في حال تكللت المفاوضات بالنجاح.

توطئة

يعيد الكثير من المؤرّخين جذور الكرد إلى العرق الآري، ويعتبرونهم أحفاد شعوب سكنت جبال زاعروس وطوروس والمناطق المحاذية لها، منذ الألف الثالثة قبل الميلاد. ويرى الباحث والمؤرّخ الكردي محمد أمين زكي (1880 - 1948) في مؤلّفه "خلاصة تاريخ الكرد وكردستان" أن أصول الكرد تشكّلت من طبقتين، الأولى سكنت جبال زاغروس وطوروس وهي: لولو، كوتي، كورتي، جوتي، جودي، كاسي، سوباري، خالدي، هوري، ميتاني. والطبقة الثانية، هي الشعوب الهندو – اوروبيّة التي أتت فيما بعد واستقرّت في المنطقة، كالميديين والكاردوخيين، واندمجت بشعوبها ليتشكّل منها فيما بعد الكرد.

كما أتى المؤرّخون اليونانيون على ذكر الكرد، بخاصة أثناء الحروب اليونانيّة – الفارسيّة وتقهقر جيش اسكندر في جبال زاغروس. ومن ذلك، المؤرّخ اليوناني زينفون (427 - 355) الذي أشار الى شعب وصفهم "بالمحاربين الأشداء ساكني الجبال"، وسمّاهم بـ"كاردوخ" الذين هاجموا الجيش اليوناني أثناء عبوره للمنطقة عام 400 قبل الميلاد. كما اتى هيرودوت (484 – 425) على ذكر الكرد في مؤلفاته. وجاء المسعودي (896 – 975) في كتابه "مروج الذهب" على ذكرهم أيضاً. ما يعني انهم من أقدم شعوب المنطقة وليسوا طارئين او وافدين.

كلمة كردستان (وطن الكرد) كاصلاح جغرافي – إداري ذي دلالة قوميّة وديموغرافيّة، لم يبتدعها الكرد، بل جاءت على عهد السلطان سنجار السلجوقي (1118 – 1157) حين فصل القسم الغربي من إقليم الجبال وجعله ولاية تحت حكم قريبه سليمان شاه وأطلق عليه اسم كردستان. وشملت هذه الولاية الأراضي الممتدة بين أذربيجان ولورستان (مناطق سناه، دينور، همدان، كرمنشاه.. في ايران) والمناطق الواقعة غرب جبال زاغروس، كشهرزور وكوي سنجق في كردستان العراق. كما جاء ذكر الكرد وكردستان في الوثائق والمراسلات الرسميّة العثمانيّة ايضاً. ومؤسس الجمهوريّة التركيّة مصطفى كمال اتاتورك نفسه، واثناء خدمته في المناطق الكرديّة، كان يشير الى انه في كردستان!

نتيجة مشاريع الصهر القومي التي مارستها الانظمة المتعاقبة على الحكم في تركيا وايران والعراق سورية، وانكارها لوجود القوميّة الكرديّة، لا يوجد احصاء دقيق لعدد الكرد، بشكل علمي ومحايد. وبحسب الموقع الالكتروني لمشروع جوشوا للمجموعات الإثنيّة (JOSHUA PROJECT) يصل عدد الكرد الى 27,380,000 نسمة، 56% في تركيا، و%16 في إيران، و%15 في العراق، و6% في سورية.

بينما يرى الباحثون والساسة والمثقفون الكرد ان عددهم يتجاوز ذلك بكثير، ليصل الى اربعين مليون نسمة، نصفهم في تركيا. كما يقدّر هؤلاء مساحة كردستان بـ550000 كيلو متر مربّع، تتوزّع على تركيا وايران والعراق وسورية ومساحة صغيرة في منطقة "لاجين" باقليم ناغورنو كراباخ المتنازع عليه بين ارمينيا واذربيجان. وبحسب احصاء اجرته وزارة الداخليّة التركيّة سنة 2011، بلغ عدد سكّان تركيا 74.724.269، منهم 15,016,000 كردي، ما نسبته 20% من عدد سكّان تركيا، و56% من اجمالي عدد الكرد في العالم. لكن الكرد لا يثقون بهذه الاحصائيّات كونها صادرة من جهات رسميّة تركيّة، لا تريد ابراز الارقام الحقيقيّة، لغايات سياسيّة. ويؤكدون ان عددهم في تركيا يتجاوز 20 مليون نسمة، يشكّلون الاكثريّة في 21 محافظة من المحافظات التركيّة التسعين.

والمحافظات ذات الغالبيّة الكرديّة، تقع في شرق وجنوب شرق تركيا ويطلق عليها الكرد اسم كردستان تركيا، او كردستان الشماليّة، اعتماداً على ان اتفاقيّة سايكس – بيكو، قسّمت كردستان الى اربعة اجزاء. والمحافظات التركيّة ذات الغالبيّة الكرديّة هي: أرزنجان، أرضروم، قارص، ملاطية، ديرسم (ـتونجَلي)، آلعزيز (ألازغ)، جَولك (بينغول)، موش، آغري، باطمان ـ آدييَمان، آمد (ديار بكر) سيرت، بدليس، وان، أورفا، عنتاب، مرعش، ماردين، جولامريك، (هكّاري)، شرناخ.

كما يوجد عدد كبير من الكرد في محافظات سيواس، أنقرة، قونية كايسري، أزمير، ميرسين، اسكندرون. في حين يقدّر النشطاء الكرد عدد القاطنين في اسطنبول من الكرد بأربعة ملايين نسمة، بخاصة بعد حملات التهجير التي قام بها الجيش التركي اثناء صراعه مع الكردستاني.

أسباب المشكلة الكرديّة في تركيا

بعد تقسيم تركة "الرجل المريض" بين الإنكليز والفرنسيين في اتفاقيّة سايكس – بيكو سنة 1916، خشيت النخب التركيّة الحاكمة، من زيادة تفتيت المتبقّي من السلطنة العثمانيّة. ويشير د. ابراهيم الداقوقي في كتابه "أكراد تركيا" إلى أن: تصريح كليمنصو، رئيس وزراء فرنسا، الذي قال فيه إن "إدارة العثمانيين سيّئة، ومظالمهم متنوّعة من عصور عديدة، وهم عديمو الكفاءة والأهليّة في إدارة العناصر غير التركيّة، فيجب ألاّ نترك أمّة ما في إرادتهم"، هذا التصريح، وارتفاع وتيرة النشاطات القوميّة للجمعيّات الكرديّة، أقلق الباب العالي من ان يؤدّي الى إنفصال كردستان عن الادارة التركيّة. فأخذت الصحافة العثمانيّة تذكّر الكرد بالإخاء الاسلامي والوطنيّة العثمانيّة.

ثم بادر الاتراك الى تشكيل هيئة وزاريّة لدراسة القضيّة الكرديّة، مؤلّفة من شيخ الاسلام حيدري زاده ابراهيم افندي، عيوق باشا وزير الاشغال، عوني باشا وزير البحريّة، الأمير علي بدرخان عضو جمعيّة تعالي كردستان، ومراد بدرخان وعبد القادر افندي من اعضاء مجلس الاعيان. واتفقت الهيئة على:
1 ــ منح كردستان الاستقلال الذاتي، شريطة قبولهم البقاء في الجامعة العثمانيّة.
2 ــ اتخاذ التدابير الفعالة لاعلان هذا الاستقلال والشروع في تنفيذ مقتضاه حالاً.

ويقول الداقوقي: لم ينفّذ الصدر الاعظم فريد باشا مقررات الهيئة. ويشير الى انه "بعد تنصيب مصطفى كمال رئيساً لمؤتمر (جمعية الدفاع عن حقوق الولايات الشرقيّة) الكرديّة، تحرّك سريعاً لتعبئة جماهير شرقي الاناضول للانخراط في حركة التحرير.

وينقل الباحث الكردي محمد ملا أحمد (1934 – 2009) عن الكاتب الانكليزي _ الكابتن هـ. س. آرمسترونغ، من كتابه "الذئب الاغبر.. مصطفى كمال أتاتورك" قوله: "كانت الوعود دائماً في نظر مصطفى كمال وسيلة لغاية، وسلّماً إلى هدف. لذا اتصل مع زعماء العشائر الكرديّة، وحاورهم باسم الوطنيّة والدين. حتى أنه ارتدى زيّ رجال الدين المسلمين، واتصل بهم وطلب منهم الوقوف في وجه مؤامرات الأرمن، والأوربيين المسيحيين (الكفار). فجذبهم إليه. وتقوّى بمساعدتهم.

وكان الاتحاديون قد جذبوا العديد من القوميين الأكراد، من أعضاء النوادي السياسيّة في دياربكر وماردين وغيرها إليهم. مقابل وعود بإعطائهم الاستقلال الذاتي، إذا ساعدوهم ضد الحلفاء والأرمن. واستطاع مصطفى كمال إبعاد الأكراد عن دعم حكومة اسطنبول وقطع لهم الوعود الكثيرة بإعطائهم الاستقلال، إن هم ساعدوه في التخلّص من الأعداء. وبيّن للأكراد لزوم "إرجاء القضيّة الكرديّة إلى أن يطهّر البلاد من الأعداء... قاطعاً لهم الوعود الصريحة باعتراف تركيا للأكراد وكردستان بالإستقلال، بمساحة أوسع من التي وردت في معاهدة سيفر.

ووثق الكثير من زعماء الأكراد بمصطفى كمال، لأنه كان يتكلم باسم الدين والوحدة الوطنية".

ولكن، لم تقتنع بعض الزعامات الكرديّة بوعود مصطفى كمال، بخاصّة بعد "رفضه وقادته العسكريين تشكيل الكرد فرقة عسكريّة كرديّة في ارضروم للدفاع عن الولايات الشرقيّة، ورفضهم قيام ايّة حركة باسم الكرد، فانقسم الكرد الى فريقين. الاول: يؤيد التعاون مع مصطفى كمال، وإرجاء مسألة الحقوق القوميّة الكرديّة. والثاني: رفض التعاون معه ودعا للاتصال بدول الائتلاف للحصول على الحقوق القوميّة. وعلى رأسهم جمعيّة تعالي كردستان وعائلة بدرخان باشا" بحسب ما أورده ابراهيم الداقوقي في كتابه "أكراد تركيا". وشارك الفريق الاول في مؤتمر سيواس المنعقد في 4 الى 12/09/1919 الذي دعا اليه مصطفى كمال مع وفد لممثلين عن (جمعية الدفاع عن حقوق الولايات الشرقيّة) الكرديّة، هم؛ مصطفى كمال، رؤوف بيك، العالم الديني رائف افندي الكردي، الشيخ فوزي افندي الكردي، الشيخ سامي بيك.

ثم انتخب مصطفى كمال بمساعدة ومساندة المندوبين الكرد رئيساً، مع معارضة آخرين!. وانتخب المؤتمر تسعة اعضاء جدد للهيئة التأسيسيّة، هم الذين وضعوا مبادىء الميثاق الوطني وايديولوجيّة الدولة الجديدة واتجاهاتها السياسيّة والاجتماعيّة. مع اتخاذ العديد من القرارات منها إرجاء القضيّة الكرديّة الى ما بعد التحرير. وتغيير اسم (جمعيّة الدفاع عن حقوق الولايات الشرقيّة) الكرديّة الى (جمعية الدفاع عن حقوق الاناضول وبلاد الروم). ومعارضة كافة اشكال الدويلات التي تحاول دول الائتلاف اقامتها.

ويذكر الداقوقي انه في مؤتمر سيواس، وبعد انتخاب الهيئة التاسيسيّة المؤلّفة من 9 اشخاص انضموا الى (جمعيّة الدفاع عن الحقوق في الاناضول وبلاد الروم) اثناء انعقاد مؤتمر ارضروم في 23/07/1919، تمّ انتخاب 3 أكراد من أصل 8 أعضاء كلجنة اشراف على مؤتمر سيواس. وبعد انتهاء المؤتمر بعث مصطفى كمال رسائل الى العديد من رؤساء العشائر والشخصيّات الكرديّة للمشاركة في حركة التحرير، مذكرا اياهم بدورهم البطولي في استرداد بتليس (بدليس) من الاعداء.

وينقل الداقوقي عن الباحث الكردي محمد امين زكي قوله: "عندما انعقد المجلس الوطني التركي في انقرة 1920، كان فيه 72 نائباً يمثلون كردستان، هم الذين تعاونوا مع مصطفى كمال، وأبرقوا الى الحلفاء بانهم لا يرغبون في الانفصال عن الاتراك".

وفي سياق الصراع على السلطة بين حكومة اسطنبول برئاسة الصدر الاعظم الدماد فريد باشا وجماعة الاتحاد والترقي والخليفة العثماني محمد وحيد الدين (1861 – 1929) من جهة، وحكومة مصطفى كمال في انقرة من جهة أخرى، حاول كل طرف استمالة الأكراد الى جانبه.

وتجدر الاشارة الى ان حكومة فريد باشا الأولى هي التي أوفدت مصطفى كمال الى المناطق الكرديّة بمنصب المفتش العام على الجيوش التركيّة، لاستمالة الاكراد واعلان الثورة. بينما حكومة فريد باشا الثانية، أصدرت قرار إقالته بتهمة العصيان والتمرّد على السلطان.

معاهدة سيفر

بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالميّة الأولى، وفي اطار الحفاظ على السلطة وقطع الطريق على حكومة مصطفى كمال في أنقرة، وبالتوازي مع مساعي استمالة الأقليّات القوميّة في السلطنة بخاصّة الكرد والأرمن، وكنوع من تبرئة الذمّة من مذابح الأرمن، وقّعت حكومة اسطنبول برئاسة علي رضا باشا يوم 10/08/1920 على معاهدة سيفر والتي نصّت على الاعتراف بأرمينيا، وبالعراق وسورية تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني.

كما نصّت البنود 62، 63، 64 من الفقرة الثالثة على منح المناطق الكرديّة الحكم الذاتي، واحتمال حصول كردستان على الاستقلال، والسماح لولاية الموصل بالانضمام إلى كردستان، طبقاً للبند 62. ونصّت البنود الثلاث على التالي:

62 ــ تشكل الحكومة لجنة يكون مقرها القسطنطينة – اسطنبول - تتألف من اعضاء ثلاثة تعيّنهم الحكومة البريطانيّة والفرنسيّة والايطاليّة. وعلى هذه اللجنة ان تضع في غضون ستة اشهر من التوقيع على هذه المعاهدة مشروعاً للحكم الذاتي المحلي للمناطق التي تسكنها غالبيّة كرديّة والواقعة شرق الفرات وجنوب الحدود الجنوبيّة لأرمينيا، كما ستقرر فيما بعد، وشمال حدود تركيا مع سورية، وبلاد ما بين النهرين.

63 ــ توافق الحكومة العثمانيّة من الآن على قبول وتنفيذ القرارات التي تتخذها الهيئة المقرر تشكيلها في المادة 62 أعلاه خلال ثلاثة أشهر من تاريخ إخطارها بتنفيذ تلك القرارات.

64 ــ في غضون سنة واحدة من هذا التاريخ، اذا ظهر الشعب الكردي القاطن ضمن المناطق المحددة في المادة 62، ان اغلبيّة سكان تلك المناطق ترغب في الاستقلال عن تركيا، واذا رأى المجلس (مجلس عصبة الأمم) أن هؤلاء جديرون بهذا الاستقلال، وإذا اوصى بأن تمنح لهم، فعلى تركيا ان توافق على تنفيذ مثل هذه التوصية، وان تتنازل عن كل حقوقها وامتيازاتها في تلك المناطق.

رفضت حكومة أنقرة هذه المعاهدة، واعتبرتها اذلالاً للسلطنة العثمانيّة وظلماً بحقّها، وتخاذلاً من حكومة اسطنبول والسلطان محمد وحيد الدين، وان الفريق الحاكم في اسطنبول قد خان الوطن. ففي 30/10/1922 قدّم مصطفى كمال مشروع قرار الى البرلمان يطالب فيه بإلغاء السلطنة واتهام السلطان بالخيانة العظمى. ووافق البرلمان على ذلك في 01/11/1922 بفصل السلطنة عن الخلافة وإلغاء الأولى!.

ونجحت حكومة أنقرة في اقناع الاكراد بإرجاء مطالبهم القوميّة، عبر قطع الوعود لهم، كما ذكرنا آنفاً، فأرسل مصطفى كمال وفداً الى مؤتمر لوزان، برئاسة صديقه عصمت إينونو (1884 _ 1973). وأثناء تواجد الوفد هناك، طلب مصطفى كمال من النواب الأكراد في البرلمان، الرد على الاستفسار، الذي وصله من إينونو (كردي الاصل)، في مؤتمر لوزان، حول رغبة الأكراد في البقاء ضمن الدولة التركيّة الجديدة. فردّ النائب الكردي عن أرضروم، حسين عوني بيك، قائلاً: "إن هذه البلاد هي للأكراد والأتراك. وإن حقّ التحدّث من هذه المنصّة، هو للأُمتَين، الكرديّة والتركيّة". وأيده النواب الكرد في البرلمان. وبموجبه، أعلن إينونو في مؤتمر لوزان، أن "تركيا هي للشعبَين، التركي والكردي، المتساويَين أمام الدولة، ويتمتعان بحقوق قوميّة متساوية".

وحين وجد المشاركون، أن الأكراد، لا يريدون الانفصال عن تركيا، وأن الاخيرة وعدت بتلبية مطالبهم القوميّة، وافقوا على غض النظر عن أي فكرة لاستقلال كردستان، وحذفوا ذكر الأكراد من وثائق المؤتمر. وتمّ التوقيع على معاهدة لوزان بين الحلفاء وحكومة أنقرة في 24/07/1923.

ونسفت هذه المعاهدة ما جاء في معاهدة سيفر، عبر تقديم التنازلات المتبادلة بين تركيا والانكليز والحلفاء فيما يخصّ المسألة الكرديّة. ولم يُذكر في نصّ المعاهدة أي شيء عن استقلال الأكراد وحقوقهم القوميّة، سوى ما جاء تلميحاً في المواد 38، 39، 44 من الفصل الثالث. حيث جاء في المادّة 38: تتعهد الحكومة التركيّة بمنح جميع السكان الحماية التامّة والكاملة، لحياتهم وحريتهم، من دون تمييز في العِرق والقوميّة واللغة والدين. وفي المادة 39: "لن تصدر أية مضايقات في شأن الممارسة الحرة لكل مواطن تركي لأية لغة كانت، إن كان ذلك في العلاقات الخاصة أم في العلاقات التجارية، أم في الدين والصحافة، أم في المؤلفات والمطبوعات، من مختلف الأنواع أم في الاجتماعات العامة.

وتقول المادة 44: إن تعهدات تركيا هذه، هي تعهدات دولية، لا يجوز نقْضها، في أي حال من الأحوال، وإلا فيكون لكل دولة من الدول الموقعة معاهدة لوزان، والدول المؤلفة منها عصبة الأمم، الحق في الإشراف على تنفيذ تركيا هذه التعهدات، بدقة، والتدخل ضدها، لحملها على تنفيذ ما تعهدت به أمام العالم.

وبعد إعلان مصطفى كمال – أتاتورك ولادة الجمهوريّة التركيّة في 29/10/1923، وضمانه دعم الغرب والقوى العظمى، وتغاضيها عن مذابح الأرمن وحقوق الاكراد، بدأ أتاتورك التنصّل مما جاء في معاهدة لوزان، ووعوده للكرد. بدأت مرحلة مريرة ومظلمة في حياة أكراد تركيا. وكردّة فعل على "خيانة" اتاتورك لوعوده التي قطعها للكرد، اندلعت انتفاضة الشيخ سعيد بيران، سنة 1925، وساندها الأرمن والشركس والعرب والاشوريين في مناطق جنوب شرق تركيا.

ومشاركة الأرمن والآشوريين في الانتفاضة، يعني بأنها لم تكن إسلاميّة صرفة، تدعو لعودة دولة الخلافة، كما يرى البعض. وانتهت هذه الانتفاضة بالسحق واعتقال الشيخ سعيد واعدامه مع رفاقه في 30/05/1925. ثم اندلعت انتفاضة جبل آغري، بقيادة الجنرال في الجيش العثماني، إحسان نوري باشا (1893 – 1976) سنة 1926 واستمرّت لغاية 1930. وأيضاً تمّ سحقها. ثمّ اتت انتفاضة الكرد العلويين في محافظة ديرسم، بقيادة سيد رضا، سنة 1937 - 1938.

وتمّ سحقها عبر استخدام الطيران. وكانت ابنة اتاتورك بالتبنّي، صبيحة غوكتشن (أوّل أمرأة تقود طائرة حربيّة في تركيا والعالم. ويقال انها من أصول أرمنيّة، بحسب الكاتب التركي الارمني الراحل هرانت دينك) هي التي تقصف مدينة ديرسم بالقنابل. وراح في المجازر التي ارتكبت في سحق الانتفاضات الكرديّة عشرات الالوف من الكرد، ومئات الالوف من المشرّدين والمهجّرين قسراً.

وهكذا، كانت خاتمة السلطنة العثمانيّة مذابح الأرمن (1915 – 1917)، وكانت بداية العهد الجمهوري – العلماني، الاتاتوركي، المجازر بحق الكرد.

أثناء ذلك، أرسى اتاتورك مبادئ الدولة – الأمّة في تركيا، ارتكازاً على عمليّات الانكار والصهر والتذويب لكل الأقليّات القوميّة، وفي مقدّمتها الكرد، ضمن بوتقة القوميّة التركيّة. وجرى انكار كل شيء له علاقة او يوحي بوجود الكرد في تركيا. وتمت تسميتهم بـ"اتراك الجبال".

وحوربت اللغة والثقافة الكرديتين، الى درجة جرا فيه تغيير الوان اشارات المرور؛ الاخضر والاحمر والأصفر (ألوان العلم الكردي). وتفاقمت سياسات الصهر والقهر والمنع والقمع والتذويب بحقّ الكرد في الانقلابات العسكريّة الثلاث التي شهدتها تركيا (1960، 1971، 1980) حيث ازدادت الدولة الكمالية (الاتاتوركيّة) في تشددها وتطرّفها القومي. وفي نهاية السبعينات، وتحديداً 27/11/1978، أجتمعت مجموعة من الشبيبة الكرديّة، بقيادة عبدالله أوجلان (الطالب في كليّة العلوم السياسيّة وقتئذ) في قرية فيس التابعة لمنطقة "لجه" بمحافظة آمد / دياربكر، وأعلنت عن تشكيل حزب العمال الكردستاني PKK (الاحرف الثلاث الأولى من الاسم الكردي للحزب). كان شعار الحزب: تشكيل كردستان المستقلّة الاشتراكيّة الموحّدة. والخطوة الأولى في هذا المسار هو التمهيد لاعلان الثورة والكفاح المسلّح. وبخصوص آيديولوجيّته فكانت خليط من اليساريّة والقوميّة كردّة فعل على اليسار التركي الذي انشق عنه أوجلان. ذلك ان هذا اليسار طالب الكرد بإرجاء مطالبهم لحين تحقيق الاشتراكيّة في تركيا. تماماً كما فعل اتاتورك سابقاً، وكما كان يطالب اليساريون والاسلاميون العرب والفرس من الكرد في العراق وسورية وايران، حتّى الآن.

عقد العمال الكردستاني مؤتمره الثاني سنة 1982 في سورية، واتخذ قرار التمهيد للعمل المسلّح. وقام بأوّل عمليّة عسكريّة ضدّ الجيش التركي في منطقة أروه التابعة لمحافظة شرناخ في 15/08/1984. وبحلول 2013، يكون قدّ مرّ على الصراع المسلّح بين تركيا والكردستاني 29 سنة، لم يستطع كلا الطرفين حسم الحرب لصالحه، رغم تفاوت ميزان القوى لصالح تركيا والدعم الاقليمي والدولي الذي حظيت به من الغرب والناتو واسرائيل.

لا يوجد إحصاء دقيق لعدد ضحايا الصراع المسلّح بين الكردستاني وتركيا. وكل طرف يورد الارقام حسب تقديراته, وتتراوح بين 60 – 70 ألف شخص. ناهيكم عن إحراق الجيش التركي لما يناهز 4500 قرية كردية وافراغها من سكّانها.

مع استلام تورغوت أوزال (1927 – 1993) لرئاسة الجمهوريّة في 09/11/1989، بدأت تلوح في الأفق بوادر اصلاحات في سياسات الدولة تجاه الكرد. منها؛ اصدار عفو عن السجناء السياسيين، شمل آلاف الكرد، بينهم قيادات بارزة في الكردستاني (مصطفى قره سو، ساكنة جانسيز، كاني يلماز، محمد شنر...)، ثمّ استبدل الحظر الكلّي عن التكلّم باللغة الكرديّة بحظر جزئي، سنة 1991.

كما أشار أوزال إلى أنه ينحدر من أصول كرديّة. وبموت أوزال المفاجئ والغامض في 17/04/1993، دخل الصراع الكردي – التركي نفقاً شديد العنف والدمويّة، شمل كل الموالين للحلّ السلمي بين الساسة والعسكر التركيين.

مفاوضات قديمة - جديدة

أوّل مفاوضات غبر مباشرة بين الكردستاني وتركيا كانت سنة 1993، عبر وساطة الرئيس العراقي وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني، بتكليف من تورغوت أوزال. حيث أعلن أوجلان نهاية آذار 1993 وقفاً لاطلاق النار، كبادرة حسن نيّة وتجاوباً مع مبادرة أوزال.

وصلت المفاوضات الى مرحلة الاعلان عنها للرأي العام. ويشير أوجلان في كتبه التي ألّفها في السجن، انه كان من المفترض ان يتصل به أوزال هاتفياً يوم 17/04/1993، للاتفاق على موعد الاعلان عن التفاهم المبرم بين الطرفين، ولكن، تفاجأ العالم بخبر (وفاة) أوزال في نفس اليوم!. تلك المفاوضات باءت بالفشل نتيجة ممانعة مراكز القوى القوميّة التقليديّة (الدولة الخفيّة في تركيا) لحلّ القضيّة الكرديّة سلميّاً. وبالإضافة الى موقف القوميين الاتراك المعتنّت، نصب الكردستاني كميناً لجنود أتراك عزّل، كانوا عائدين من إجازاتهم في منطقة بينغول، وقتل 33 جندياً تركياً رمياً بالرصاص. تلك العمليّة العسكريّة، قادها القائد الميداني البازر والسابق في الكردستاني، شمدين صاكك، (المسجون حالياً في تركيا) اتضح فيما بعد، أنّه كان على علاقة بدوائر الدولة الخفيّة التركيّة، وفق مصادر الكردستاني.

المفاوضات الثانيّة، غير المباشرة، كانت سنة 1997، حين أرسل رئيس الوزراء التركي، وقتئذ، نجم الدين أربكان (1926 – 2011)، رسائل إلى اوجلان، عبر الحركة الإسلاميّة اللبنانيّة. وانتهت هذه المبادرة، حين اطاح العسكر بأربكان، عبر الانقلاب الأبيض الذي قام به الجيش التركي في نفس العام، وإبعاد اربكان عن الحياة السياسيّة وحظر حزبه بقرارٍ من المحكمة الدستوريّة العليا.

الجولة الثالثة من المفاوضات كانت مباشرة، بدأت بلقاءات أجرتها السلطات التركيّة مع أوجلان، بعد اختطافه من العاصمة الكينيّة نيروبي في 15/02/1999 ومحاكمته وسجنه في جزيرة إيمرالي. وذكر أوجلان أكثر من مرّة أن هذه اللقاءات كانت تتمّ بشكلٍ رسمي، وبعلمٍ وتفويض من حكومة بولند أجاويد (1925 – 2006) وهيئة الأركان التركيّة، وأن هذه المفاوضات انقطعت فجأة. ثمّ طالب أوجلان مراراً بعودتها، أثناء لقاءاته مع محاميه، لإيجاد منفرج سلميّ للقضيّة الكرديّة. وجرت جولات جديدة من اللقاءات -المفاوضات، على زمن حكومة حزب العدالة والتنمية. كانت تنقطع وتبدأ من حينٍ لحين.

أطول جولة مفاوضات بين الكردستاني وأنقرة كانت تلك السريّة المباشرة، التي احتضنتها العاصمة النرويجيّة أوسلو، من سنة 2008 ولغاية تموز 2011، حيث توقّفت بشكلٍ مفاجئ بعد هجوم شنّه مقاتلو الكردستاني على موقع عسكريّ تركي! بالإضافة إلى تسرّب تسجيلات صوتيّة لتلك اللقاءات إلى الاعلام التركي. وفي تصريح له لوكالة فرات للأنباء يوم 06/07/2012، اعترف رئيس اللجنة التنفيذيّة للعمّال الكردستاني، مراد قره إيلان، بهذه المفاوضات. مشيراً إلى انها بدأت سنة 2008، ونفى أن تكون المخابرات البريطانيّة هي التي أشرفت عليها، بل منظمة مدنيّة دوليّة، رافضاً ذكر اسمها.

ومع الهجوم الذي شنّه مقاتلو الكردستاني على الموقع العسكري التركي يوم 14/07/2011، وتوقّف المفاوضات بين الطرفين في أوسلو، أوقفت السلطات التركيّة اللقاءات الدوريّة التي كان يجريها محامو أوجلان مع موكلهم. بل اعتقلت العشرات منهم.

وفي يوم 08/07/2012، ذكرت صحيفة "آيدنلك" التركيّة، أن أوجلان، أجرى اتصالاً هاتفيّاً، مع البرلمانيّة الكرديّة المعروفة ليلى زانا، وطلب منها الانخراط في العمليّة السلميّة والاجتماع بأردوغان. جاء ذلك في سياق مقال كتبه الكاتب والصحافي التركي صباح الدين أونكيبار، نشرته "آيدنلك". ونقل أونكيبار عن شخص، مكتفياً بوصفه "الاسم الهامّ"؛ تأكيده اتفاق الاستخبارات التركيّة MIT والامريكيّة CIA على "افساح المجال أمام انطلاق مرحلة سلام جديدة في تركيا، لانهاء الصراع".

وأضاف: "الاستخبارات التركيّة تلتقي بأوجلان يوميّاً. ولكنّ أوجلان، أصرّ على التساؤل: إلى أيّ مدى أمريكا جادّة في انخراطها ضمن مساعي الحلّ السلمي. ولكي يُقنع الأتراك أوجلان بذلك، ساهموا في إجراء لقاء جمعه بدبلوماسي أمريكي رفيع المستوى، بصحبة عميل كبير في الاستخبارات الامريكيّة. ونجحوا في اقناع أوجلان, فاتصل هاتفيّاً مع ليلى زانا، طالباً منها اللقاء بأردوغان". وأكّد "أن أنقرة، قطعت وعداً لواشنطن بخصوص ايجاد حل!. وبعد إنجازه، شيئاً فشيئاً، ربما يتمّ إعلان العفو عن اوجلان"، ينهي "الاسم الهام" كلامه.

كما ذكر رئيس تحرير جريدة "راديكال" التركيّة أيوب جان في عاموده المنشور يوم 04/07/2012، أنّ اللقاءات بين أوجلان والدولة التركيّة "لا زالت مستمرّة"، وأن اللقاء الذي جرى بين ليلى زانا وأردوغان، كان بعلم أوجلان.

على ضوء ما سلف، الدولة التركيّة تريد التواصل مع أوجلان بشكلٍ مباشر، إلى جانب استمالة بعض المعتدلين المحسوبين على الكردستاني، كالبرلمانيّة ليلى زانا. هذه الفرضيّة، أكّدتها صحيفة "روداو" الكرديّة الصادرة في إقليم كردستان العراق، عبر نشرها يوم 13/07/2012 تقريراً مفصّلاً عن المفاوضات السريّة بين الكردستاني وتركيا. وذكرت الأسبوعيّة الكرديّة، أنّ أوجلان يعتكف على إعداد خارطة طريق جديدة لحلّ القضيّة الكرديّة، تتألّف من سبعة بنود. وأشارت إلى أنّ الكردستاني سيرضى بأيّ حلٍّ يراه أوجلان مناسباً.

الجولة الأخيرة للمفاوضات بين الكردستاني وأنقرة، كانت في الشهرين الماضيين، بحيث تم التمهيد لها عبر تصريحات صادرة عن مسؤولين اتراك كبار، تشير الى احتمالات بدء "أوسلو جديدة"، في إشارة منهم الى المفاوضات السابقة في العاصمة النيرويجيّة التي توقّفت في منتصف تموز 2011.

وفي هذا الإطار، سمحت السلطات التركيّة لبرلمانيين أكراد عن حزب السلام والديمقراطيّة الكردي (موالي للكردستاني وله كتلة برلمانيّة في البرلمان التركيّة: 30 نائب) الاجتماع بأوجلان يوم 03/01/2013، لسبع ساعات. في حين ان السلطات التركيّة سابقاً كانت تضيّق كثيراً على المحامين وتمنعهم من مقابلة أوجلان، تارةً بحجّة سوء الاحوال الجويّة، وتارةً بحجّة عدم جهوزيّة المركب الذي سيقلّهم الى جزيرة إيمرالي!. زد على ذلك، ان برلمانيين عن حزب العدالة والتنمية، اكّدوا ان المفاوضات مع أوجلان وصلت لمرحلة متقدّمة. كما أكّد أردوغان، انهم يتفاوضون مع اوجلان كدولة، وليس كجهة أمنيّة أو حزب حاكم فقط.

وسط أجواء التفاؤل هذه، قتل الجيش التركي 10 من مقاتلي الكردستاني في منطقة جولك / بينغول، جنوب شرق تركيا، في 31/12/2012، وردّ الكردستاني باستهداف مراكز عسكريّة تركيّة. والصدمة الكبرى لجميع المراقبين، هي عملية التصفية – الاغتيال التي حدثت في باريس يوم 09/01/2013، المذكورة أعلاه، وراح ضحيّتها ثلاث كوادر قياديّة في الكردستاني.

اللافت في ردود الأفعال على هذه الجريمة، تنديد السلطات التركيّة بها، وتقديم التعازي، سواء من بلندر أرينج، نائب رئيس الوزراء، والناطق باسم الحكومة حسين تشيليك (من أصل كردي). وتنديد اردوغان نفسه بها. بالتوازي مع ذلك، اصدر الكردستاني بياناً يوم 10/01/2013، متهماً فيه (غلاديو تركيا) بأنها تقف وراء الجريمة. ولم يتهم حكومة العدالة والتنمية بذلك. واكتفى بتوجيه الانقادات للتصريحات التركيّة، ونفي ان تكون عمليّة الاغتيال اتت في سياق "تصفية حسابات داخليّة"، كما أشاعه الأتراك.

وفي 11/01/2013، نقلت وكالة فرات نيوز الكرديّة، المقرّبة من الكردستاني، بياناً آخر له، بنفس الصدد، لم يختلف في دباجته عن السابق، حيث ذكر الكردستاني بأن الجريمة، أتت بالتنسيق بين القوى الظلاميّة في تركيا (غلاديو) والقوى الدوليّة لعرقلة عمليّة السلام الجاريّة بين اوجلان وتركيا. مؤكداً ان هذه القوى، لن تحقق أهدافها مطلقاً.

ولم يتهم البيان الحكومة التركيّة او الدولة بشكل عام، بل اكتفى بتوجيه الانتقاد لتصريحات المسؤولين الاتراك والاعلام التركي المقرّب من الحكومة. ما يعني ان الكردستاني مصمم على المضي في عمليّة السلام، مهما كانت الأكلاف.

وفي 14/01/2013 ذكرت وكالة فرات نيوز للانباء، نقلاً عن مقال للقيادي البارز في الكردستاني وأحد مؤسسه، جميل باييك، نشرته صحيقة "آزاديا ولات" الصادرة في دياربكر، نقلت عنه اتهامه بشكل مباشر وصريح للدولة والحكومة التركيّة على أنهما اللتان "ارتكبتا الجريمة". حيث شنّ باييك هجوماً عنيفاً على الدولة التركيّة وحكومتها وإعلامها، متهماً الحكومة بأنها "كانت على علم بالجريّمة، وأمّنت لها التغطية السياسيّة، ونفّذتها الجهات الاستخباريّة التركيّة". وذكر باييك بأن الدولة والاستخبارات التركيّة، "بعد ان فشلت في الوصول الى قيادت الحزب في جبال قنديل، بغية تصفيتهم، ارتكبت هذه الجريمة". وأشار الى ان الدولة ارسلت "فرق الاعدام الى مناطق عديدة لتعقّب واغتيال قيادات الكردستاني". وان الحكومة التركيّة "ليست لديها مشروع حلّ، بل لا زالت مصممة على مشروع التصفيّة".

وقال: إن "أرغاناكون الأخضر" (في إشارة منه الى الدولة الخفيّة الاسلاميّة التابعة لجماعة فتح الله غولان الاسلاميّة وحزب العدالة والتنمية في تركيا) هي التي نفّذت جريمة باريس، بالتعاون والتخطيط مع جهات دوليّة، لا تريد السلام والحلّ الديمقراطي للقضيّة الكرديّة في تركيا"، متهما الوزير السابق في حكومة العدالة والتنمية، والناطق باسم الحزب والحكومة، حسين تشيليك (كردي الأصل)، بأنه متورّط في جريمة اغتيال الناشطات الثلاث".

بصرف النظر عن صحّة اتهامات باييك من عدمها، ومن خلال مقارنة مقاله، واللهجة التصعيديّة فيه، بالبيانين الصادرين عن الكردستاني، يُلاحظ علوّ لهجة التشدد والحزم والاتهام المباشر للدولة والحكومة ولأشخاص بعينهم في المقال، قياساً بيانيّ الكردستاني!. ما يعني أنه ربما يكون هنالك اختلاف في الأمزجة والمواقف، ضمن قيادة الكردستاني. وتتقاطع هذه الفرضيّة، مع آراء الكثير من المحللين السياسيين المتابعين للشأن التركي والكردي.

على الطرف الآخر، تحاول الحكومة التركيّة والاعلام الموالي لها، تبرئة ساحتها من هذه الجريمة وانها ماضية في عمليّة السلام والحوار مع اوجلان. ولكن، ثمّة تصريحات صادرة عن أردوغان، تلقي بظلال الشكّ والريبة على النوايا التركيّة في ان تتكلل هذه المفاوضات مع أوجلان بإبرام اتفاق ينهي الصراع بشكل مشرّف لكلا الطرفين!. حيث صرّح أردوغان، بأن أوجلان، لن يتغيير مكانه، بإخراجه من السجن الانفرادي ووضعه تحت الاقامة الجبريّة!. وان الجيش التركي سيواصل حملات التمشيط في تعقّب مقاتلي الكردستاني، حتّى لو حاولوا الخروج خارج الاراضي التركيّة. وان على المقاتلين إلقاء اسلحتهم، حتّى يتم السماح لهم بالخروج من الاراضي التركيّة!.

وكل هذه الاشتراطات، هي بالضدّ تماماً من الشروط التي يضعها الكردستاني في أيّة تسوية سمليّة للقضيّة الكرديّة: (تحسين وضع اوجلان. وقف حملات التمشيط العسكريّة. الافراج عن السجناء السياسيين. الاعتراف بالكرد كشعب في الدستور التركي. ادراج تعليم اللغة الكرديّة ضمن مناهج التربيّة والتعليم). وإذا كانت حكومة اردوغان تصرّ على ذلك، فأنه لا معنى لأي عمليّة تفاوض، طالما تريد فرض الاستسلام على الكردستاني، بشكل مهين ومذلّ، بحسب رأي العديد من المراقبين.

بالنتيجة، رغم ان الاجواء المشحونة بالتوتّر، يترّقب الجميع ما سيدلي به أوجلان، تعليقاً على عمليّة الاغتيال التي شهدتها باريس، وحيال مواقف قيادة حزبه في جبال قنديل، وتصريحات الحكومة التركيّة. ذلك ان القول الفصل سيكون لأوجلان كرديّاً. وبناء عليه، ستتوضّح أمور كثيرة، أقلّها؛ هل سيحافظ الكردستاني على حالة الانسجام والولاء المطلق لزعيمه السجين؟، ام ستطفوا على السطح حالات انشقاق، تلقي بظلالها ووطأتها على أيّ مشروع حلّ بين أنقرة وأوجلان، من جهة؟. ومن جهة اخرى، هل ستتخلى النخب السياسيّة الاسلاميّة الجديدة الحاكمة في تركيا، عن الموروث القومي، العنصري، الذي ورثته عن النخب الاتاتوركيّة السابقة؟.

عوائد الحلّ السلمي

الصراع بين الكردستاني وتركيا كان داخل وخارج الأراضي التركيّة، بشكليه السياسي والعسكري. وإذا كانت تركيا قد نجحت في توجيه ضربات سياسيّة ودبلوماسيّة للكردستاني، وخاصّة على صعيد إدراج الكردستاني في لائحة المنظمات الإرهابيّة في أمريكا والاتحاد الأوروبي، فإن الكردستاني، استنزف تركيا لثلاثة عقود، وقادر على استنزافها لثلاثة عقود أخرى، بالنظر الى القوة العسكريّة والجماهيريّة والاعلاميّة التي ما زال يمتلكها، ليس في تركيا وحسب وبل في كامل منطقة الشرق الاوسط وأوروبا. ومما لا شكّ فيه ان الصراع بين الكردستاني وتركيا، يعبّر عن نفسه في الساحة السوريّة أيضاً بأشكال مختلفة، لم تصل بعد للمنحى العسكري. بحيث يسعى الكردستاني إلى الاستفادة من الأزمة السوريّة للحدود القصوى، بغية تعزيز موقفه التفاوضي مع أنقرة وتحقيق مكاسب سياسيّة في تركيا.

وقد حاولت الاخيرة حثيثاً التبرير لـ"غزو" المناطق الكرديّة شمال وشمال شرق سورية، تارةً بحجّة إقامة منطقة عازلة لحماية المدنيين من بطش النظام السوري، وتارةً أخرى بحجّة حماية حدودها من تواجد عناصر الكردستاني، أو التنظيمات السياسيّة المواليّة له، بين أكراد سورية.ّ هذه المساعي باءت بالفشل، نتيجة رفض واشنطن لأيّ غزوٍ تركيّ لشمال سورية. وكشفت صحيفة "Zaman Today" التركيّة يوم 18/09/2012، أنّ قائد الجيوش الامريكيّة مارتين ديمبسي، أبلغ رئيس هيئة الأركان التركيّة نجدت أوزال بضرورة سحب القوّات العسكريّة من الحدود التركيّة-السوريّة، تفادياً لإشعال المناطق الكرديّة يكون فيها الرابح الأكبر هو الكردستاني بشكلٍ مباشر، والنظام السوري، بشكلٍ غير مباشر.

ويبدو أن أنقرة وواشنطن بدأتا تقتنعان بالأهميّة الاستراتيجيّة القصوى لعقد صفقة سلام مع الكردستاني، بعد فشل كلّ محاولات التصفية والحسم العسكري التي مارستها تركيا. ومع اندلاع الثورة السوريّة، وظهور الكردستاني كعاملٍ استراتيجيّ وحاسم في سورية والمنطقة، ازدادت الحاجة الملحّة والحيوية لاحتواء هذا الحزب. ولعل أبرز العوائد الاقتصاديّة التي ستعود على تركيا من هكذا صفقة؛ دخول نفقات "مكافحة الارهاب" التي تقدّر بمليارات الدولارات، إلى خزينة الدولة للمساهمة في مشاريع التنمية. ناهيكم عن توقّف نزيف الدم الكردي - التركي. في حين يمكن اختصار المكاسب السياسيّة من هكذا صفقة على النحو التالي:

1 ــ انخراط الكردستاني في السياسة التركيّة، بحيث يصبح مدافعاً عن مصالحها في سورية وايران والعراق والمنطقة، وعدم ممانعة المشاريع والمخططات والطموحات التركيّة في المنطقة على اعتبارها من مصالح كرد تركيا ايضاً.

2 ــ تستفيد تركيا من الثقل الجماهيري الوازن للكردستاني في سورية على وجه الخصوص، وفي إيران والعراق عموماً؛ ويمكن لتركيا وأمريكا أن تستفيدا من الجناح الإيراني للكردستاني (حزب الحياة الحرّة الكردستاني – PJAK)، كذراع عسكريّة منظّمة وقويّة داخل إيران.

3 ــ بحلّ القضيّة الكرديّة في تركيا تكون أنقرة قد طوت ملفّاً لطالما استنزفها منذ سنة 1925. وبذلك تكسب الأكراد إلى جانب العرب السنّة والأقليّات الأخرى في سورية والمنطقة.

4 ــ بحلّ القضيّة الكرديّة في تركيا، تزيح انقرة حجر عثرة كبير من أمام انضمامها للاتحاد الاوروبي. وبذلك تكون مرتاحة تماماً في الامتداد شرقاً وجنوباً وغرباً.


كرديّاً: انتعاش الحال الديمقراطيّة والسياسيّة في تركيا، سينعكس بشكل مباشر، ليس فقط على أكراد تركيا وحسب، بل ستطال أكراد العراق وسورية أيضاً. فتركيا التي كانت تمانع وترفض بشكل مطلق الفيديراليّة في كردستان العراق، هي الان، ترتبط مع كردستان بعلاقات سياسيّة واقتصاديّة ضخمّة ووثيقة، بحيث وصل حجم التبادل التجاري بين كردستان وتركيا لما يزيد عن ثمانية مليار دولار.

خلال فترة الصراع، قام الكردستاني بطرح العديد من مبادرات السلام، وتخفيض سقف المطالب، لتصل الى المطالبة بما يشبه الحكم الذاتي في المناطق ذات الغالبيّة الكرديّة، والاعتراف بالوجود القومي الكردي في الدستور التركي. وتحسين وضع أوجلان من السجن الانفرادي المعزول في جزيرة ايمرالي الى الاقامة الجبريّة، بحيث يمنع عليه الحياة السياسيّة والخروج من تركيا، ولكن يسمح له بالتواصل مع الخارج.

هذه المطالب معقولة ومعتدلة بحسب الكثير من القانونيين والمحللين السياسيين، ويعتبرونها أنها من صلب اتفاقيّة لوزان التي وقّعت عليها تركيا سنة 1923، وانتهكتها طيلة هذه العقود. سابقاً، كان رئيس الحكومة التركيّة يبرر تباطؤ او تلكؤ حكومته في ايجاد حل سلمي للقضيّة؛ بأن "الجيش والقوى النافذة في تركيا هي التي تمانع وليس هو وحكومته وحزبه"!.

ومع وجود عبدالله غل، (احد مؤسسي العدالة والتنمية) في رئاسة الجمهوريّة، وامتلاك حزب اردوغان الاغلبيّة البرلمانيّة والتفويض الشعبي، وامتلاكه مفاتيح الاقتصاد والقضاء والاعلام، ووجود نجدت اوزال، المقرّب من اردوغان على رأس هيئة الاركان التركيّة، ووجود هاكان فيدان، المفرّب من اردوغان، على رأس مؤسسة الاستخبارات التركيّة... كل ذلك، يخوّل اردوغان ان يعقد اتفاق سلام مع الكردستاني، وبشروط تكون مشرّفة للطرفين.

يبقى القول: هل سيقتدي العثمانيين الجدد بأجدادهم حين تصالحوا وتحالفوا مع الكرد، فانتصروا على الروم في معركة ملاذكر سنة 1071، ومعركة تشلديران سنة 1514 ضدّ الصفويين، فشكّلوا السلطنة السلجوقيّة ثمّ العثمانيّة؟. أم سيقتدون بأتاتورك، لجهة غزارة الوعود، ثم الاخلاف بها، وابقاء تركيا تعوم في دوّامة دماء أبنائها من الكرد والترك؟. وهل سيلقي الكردستاني السلاح، في اطار تسوية سلميّة معقولة ومشرّفة، ويسعى لتحقيق باقي الحقوق الكرديّة في تركيا عبر السياسة، بعيداً من قعقعة السلاح؟. إن تصافت النوايا وتضافرت الجهود الارادات الوطنيّة والديمقراطيّة، فكل شيء ممكن.

* دراسة أعدها هوشنك أوسي، كاتب وخبير سياسي كردي.

المصادر

الموقع الالكتروني لمؤسسة البيت الكردي
http://www.shafaaq.com/mallkurd/index.php?option=com_content&view=article&id=232:---------1&catid=41:history&Itemid=199

كتاب "أكراد تركيا" للدكتور ابراهيم الداقوقي _ دار المدى للثقافة والنشر – 2003

الموقع الالكتروني للباحث والسياسي الكردي محمد ملا احمد
http://www.mihemede-mele-ehmed.com/web/pirtukenMME/pirtuk_arabic.php?arID=185

موسوعة السياسة، عبد الوهاب الكيالي، ص 403، المجلد 3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط 2 سنة 1993.

صحيفة الحياة اللندنيّة: "أكراد تركيا بين الحلم المندثر والصحوة الثائرة". عدد الثلاثاء / ٣ يناير / ٢٠١٢

أسبوعيّة روداو الكرديّة الصادرة في كردستان العراق.. عدد 13/07/2012

النشرة العربيّة لصحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسيّة.. عدد اكتوبر 2012: تركيا والعمال الكردستاني

من دولة الكهنة السومريّة نحو الحضارة الديمقراطيّة: عبدالله أوجلان – دار آماردا/ بيروت 2002

دفاعاً عن شعب: عبدالله أوجلان / منشورات حزب العمال الكردستاني / 2005

وكالة فرات نيوز للانباء:
http://ku.firatajans.com/index.php?rupel=nuce&nuceID=41130
http://ku.firatajans.com/index.php?rupel=nuce&nuceID=41166
http://ku.firatajans.com/index.php?rupel=nuce&nuceID=41273