المحتكرون الأربعة
فى الأسبوع الماضى، وقعت أحداث مثيرة يمكن أن تسهم فى إعادة صياغة دور ومستقبل شركات التكنولوجيا العملاقة، التى تهيمن على جزء حيوى من صناعات الاتصال والمعلومات، والألفة والتسرية، والتجارة الإلكترونية، فى العالم المعاصر.
فقد خضع المديرون التنفيذيّون لأكبر أربع شركات تكنولوجية على المستوى العالمى لتحقيقات برلمانية فى الولايات المتحدة الأمريكية بهدف تقصى مدى اتساقهم مع قواعد المنافسة العادلة، واختبار ما إذا كانوا تورطوا فى ممارسات احتكارية، فى ظل تضخم كبير فى عائدات أعمالهم، وثرواتهم، وشكاوى من المنافسين، وإفادات معتبرة من جهات مراقبة وتدقيق فى أكثر من بلد.
كان أربعة من أغنى الرجال فى العالم مضطرين للمثول إذاً أمام لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ الأمريكى، وهى لجنة جمعت نحو 1.3 مليون وثيقة، ووثّقت شهادات لمنافسين وموظفين وخبراء ومسئولين حكوميين تم تسجيلها على مدى مئات الساعات عبر لجان استماع متخصّصة، كما فحصت ميزانيات الشركات الأربع، وبحثت سياساتها، ودققت فى نتائج عملياتها، سعياً إلى الإجابة عن عدد من الأسئلة المهمة، منها: هل مارست تلك الشركات الأربع احتكاراً؟ وإلى أى حد أضرت بالمنافسين وأسس المنافسة العادلة؟ وهل العالم فى حاجة إلى قوانين جديدة فى مجال مكافحة الاحتكار؟
أما المديرون الكبار الذين يتحكمون فى الشركات الأربع محل المساءلة، فهم مارك زوكربيرج مؤسس «فيس بوك» ورئيسها التنفيذى، وجيف بيزوس مؤسس «أمازون»، وسوندار بيتشاى الرئيس التنفيذى لشركة «جوجل» الأم، وتيم كوك الرئيس التنفيذى لشركة «أبل».
إن قصص هؤلاء الرجال، ومن ورائها قصص شركاتهم الضخمة، جديرة بالاهتمام حقاً، إذ تبلغ قيمة الشركات الأربع أكثر من 4.8 تريليون دولار، وهو رقم شديد الضخامة وشديد التأثير فى الاقتصاد العالمى، وفيما تبلغ ثروة أغناهم وهو بيزوس نحو 180 مليار دولار يتصدر بها قوائم أثرياء العالم، فإن أصغرهم زوكربيرج يتمتع بثروة لا تقل عن 113 مليار دولار.
منذ انطلقت تلك الشركات فى عالم الأعمال لم تكفّ عن التوسّع والازدهار والاستحواذ على المزيد من المنافسين، لكن الإنصاف يقتضى الإقرار بأن هذه الشركات أيضاً امتلكت ريادة وقدرة وإبداعاً وخدمت الاتصال والاقتصاد العالميين بأشكال شتى، ومع ذلك فإن الاتهامات بدأت تتكثّف حيال سلوكها التنافسى واحتمالية خرقها قواعد التنافس العادل، وجورها على شركات أخرى أصغر، ونزوعها نحو تأميم أى نجاح فى قطاعات عملها ومصادرته، ليس فقط عبر عروض الاستحواذ اللائقة، لكن ربما عبر التهديد أيضاً والممارسات الجائرة.
أو هذا ما رشح على الأقل فى الفيديو الذى شاهدته لجلسة التحقيق التى أجرتها عضو فى مجلس الشيوخ الأمريكى مع مارك زوكربيرج، وكيف استطاعت تلك النائبة أن توجّه الأسئلة الصعبة والمحكمة للشاب المهيمن على أكبر شركة تواصل اجتماعى فى العالم، لتُظهر تلعثمه ومحاولاته الدائبة للهروب من الإجابة عن أسئلة من نوع: «هل قمتم فى (فيس بوك) باقتباس خدمات أو تطبيقات لمنافسين؟ وهل تعرف عدد المنافسين الذين اقتبستم خدماتهم وأفكارهم؟ وهل استخدمتم التهديد باقتباس الخدمات أو تدميرها من أجل تسهيل استحواذكم على بعض المنافسين؟ وهل حدث هذا تحديداً عند استحواذكم على «إنستجرام»، كما يشكو مالكه السابق؟».
منذ انطلق «فيس بوك» فى عالم التواصل الاجتماعى، لم يتوقف يوماً عن التوسّع، والازدهار، وتحقيق الأرباح، والاستحواذ على الشركات، لكن منذ عام 2016، بدأت الاتهامات والانتقادات تلاحقه وهى اتهامات استند بعضها إلى تحقيقات رسمية، وأدلة دامغة، حتى إن الشركة نفسها لم تنفِ عدداً منها.
لا يزال «فيس بوك» يكبر، ويستحوذ، ويربح، ففى الربع الثالث من عام 2019، بلغ إجمالى إيراداته 17.625 مليار دولار، فيما لم تتجاوز نفقاته 10.467 مليار دولار، ليُحقق ربحاً خالصاً يفوق ستة مليارات دولار.
لا يشبع «فيس بوك» من الاستحواذ، حتى إنه أنجز، على مر السنوات المحدودة التى خلت منذ أطل على مسرح الأعمال العالمى، أكثر من 70 استحواذاً، بقيمة يصعب تعيينها بدقة، إذ لا تتضح دائماً المعلومات الكافية عن تلك الصفقات، التى لا تُفضى عادة سوى إلى منحى وحيد: تكريس قوة الشركة الأكبر فى عالم التواصل الاجتماعى وإضعاف المنافسين أو بلعهم.
فى عام 2018 وحده، استحوذ «فيس بوك» على أربع شركات مختلفة، بينها تطبيق التواصل «ريديكس» الإسرائيلى، وشركة «بلومزبرى إيه آى» اللندنية، التى تعمل فى مجال الذكاء الاصطناعى.
عندما ازدهرت أعمال تطبيق المحادثة الشهير «واتس آب»، سارع «فيس بوك» إلى شرائه بمبلغ 19 مليار دولار، فى صفقة مشابهة لتلك التى عقدها حين استحوذ على تطبيق «إنستجرام».
يشترى «فيس بوك» شركات تعمل فى مجالات تقنية المعلومات، أو الطائرات «الدرون»، أو تطبيقات التراسل، أو تقنيات التعرّف إلى الوجوه، أو تطبيقات الهاتف المحمول، أو الواقع الافتراضى، وهى شركات قد تكون صغيرة بحجم أعمال لا يتخطى 200 ألف دولار، أو كبيرة يبلغ ثمنها نحو 20 ملياراً، لكن ما يجمعها جميعاً أنها توطد دعائم قوته، وتُجهض إرهاصات منافسته، وتُصلب وضعه الاحتكارى.
لقد تم توجيه اتهامات مماثلة أيضاً إلى مديرى «أمازون» و«جوجل» و«أبل»، إثر ظهور إشارات وقرائن عن ممارسات احتكارية قامت بها هذه الشركات وألحقت الضرر بالمنافسين.
يقول النقاد إن تلك التحقيقات ليست الأولى فى هذا الصدد، وإن تحقيقات سابقة واتهامات مباشرة وقضايا تم بحثها فى المحاكم لم تفلح أبداً فى الحد من النزعة الاحتكارية للمحتكرين الجُدد الذين تجسّدهم تلك الشركات الأربع الكبرى بوضوح.
وبموازاة الاتهامات ذات الصلة بالاحتكار وقواعد المنافسة، فثمة اتهامات أخرى لا تقل أهمية وخطورة، خاصة فى ما يتعلق بالمحتوى الذى يتم بثه عبر الوسائط العائدة لبعض تلك الشركات، وتتمحور الشكوى فى هذا الإطار عادة حول عاملين، أولهما احتفاء تلك الشركات بالمحتوى السيئ والضار، طالما أنه يسهم فى تعزيز سلسلة الانتشار وجلب الإعلانات والعوائد، أو عدم استثمار جزء من أرباحها الهائلة من أجل الحد من هذا المحتوى الضار.
يصعب جداً توقع أن تؤدى مثل تلك التحقيقات إلى تفكيك هذه الشركات، لكن ربما يمكن من خلالها تشجيع الحكومات على سن تشريعات جديدة، تُرسى حدوداً وقيوداً، وتُحد من تغول هذه الشركات على المنافسين، وتهذب نزعتها الاحتكارية.
*نقلاً عن صحيفة "الوطن"