لبنان.. الدولة المفقودة
كُتب عن لبنان الكثير، قبل الانفجار الكبير وبعده، ولكن أغلب ما كتب تطرق لمشكلة انتشار الفساد أو تصرفات الطبقة السياسية أو تغوُّل بعض الأحزاب على غيرها، وكل ذلك صحيح، إنما ما يجب التطرق إليه في هذا الوقت تحديدًا هو غياب الدولة عند كل منعطف كبير سواء أكان صغيرًا أو كبيرًا؛ فغياب الدولة أدى إلى انتشار الفساد بشكل غير مسبوق، وغياب الدولة أدى إلى انعدام الأساسيات الخدمية التي يحتاجها المواطن، وغياب الدولة أدى إلى صعود مصالح البعض على مصلحة الدولة «المفقودة». أما إصرار البعض على التعامل مع لبنان وكأنها دولة على وشك الانهيار وقريبًا ستصبح دولة فاشلة «failed state» ويجب إجراء إصلاحات لتجنب انهيار الدولة كما يطالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فهذا ضحك على العقول وقلة احترام للشعب اللبناني وما يعانيه من فقدان لكل حقوقه الأساسية وهو الشعب المبدع والمنتج والذي بمجرد أن يمتلك فسحة من الأمل يستطيع أن يصنع النجاح.
قد يوجد الفساد في أي دولة، حتى الدول الغنية والمتقدمة تعاني من الفساد ولكنه لا يطغى على الدولة ومؤسساتها، وإن ظهر للعلن فهناك مؤسسات تنهض بدورها وتحاكمه أو حتى تحاربه قبل ظهوره بإجراءات استباقية، إنما غياب الدولة وتضعضع مؤسساتها يعني فرض مبدأ البقاء للأقوى على حساب الدستور والقانون والحقوق.
فعندما لا تكون الدولة ودستورها ومؤسساتها هي مرجعية الشعب الأساسية فعندها نجزم أن لا وجود للدولة أساسًا. عندما تكون مصالح الأحزاب أو الطوائف أهم من الدستور والقوانين وعندما تصطدم هذه المصالح مع الدستور فيتم تجاوز الدستور مثلما حدث عند التجديد لإميل لحود كرئيس للجمهورية حتى بعد انتهاء ولايته الدستورية، فوجود دستور قوي أو قوانين متطورة بدون التزام بمبادئ الدستور وبدون وجود مؤسسات قوية تجبر الجميع على الالتزام بالقوانين وعدم تجاوزها مهما كانت المبررات لا يعطي أي قيمة للدستور ولا القوانين وضمنيًا لا وجود للدولة؛ فلا توافقات ولا توازنات تبرر تجاوز أركان الدولة لصالح فئة أو طائفة، وعندما يحدث ذلك يكون الثمن هو انهيار الوطن وللأسف هذا ما حصل في لبنان.
نعلم تمامًا أن الانهيار الأخير كان نتيجة تراكمات عديدة، وأن اختطاف لبنان كرهينة من قبل تحالف حزب الله والتيار العوني من أجل إيصال العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية بقوة السلاح والترهيب وترك البلد في فراغ سياسي لمدة سنتين ونصف لإجبار بقية الأطراف على قبول تحالف الأمر الواقع ومفاقمة أثر هذا الانهيار. إنما انهيار لبنان حصل في الواقع قبل ذلك بكثير، حصل عندما أصبحت هناك دولة حزب الله وأصبحت هناك مصالح الموارنة ومصالح السنة ومصالح الدروز وإلى آخر القائمة من طوائف وتيارات لها مصالح تخاف عليها وتحتاج لأمراء الحروب أن تؤمِّن لهم بقاء هذا المصالح أو الحد الأدنى منها.
ولم يعد هناك مصالح للبنان «الدولة» أهم من هذه المصالح الفئوية، ولم يعد هناك اعتبار لمصلحة المواطن مقابل مصالح الأحزاب والطبقة السياسية، ولم يعد ينظر في ما إذا كانت مصلحة لبنان والشعب اللبناني تتوافق مع مصالح الدول الخليجية مثلاً أو العربية أو الغربية بل أصبح تقدير وتقييم مصالح الحزب الفلاني أو الطائفة الفلانية أهم من مصلحة لبنان وتفرض السياسة التي تتطابق مع ذلك بقوة السلاح الموجود خارج سلطة الدولة بحجة المقاومة، ولم يعد الشعب يرجع للدستور ولا لمؤسسات الدولة اللبنانية، وحتى الطبقة السياسية الرافضة لهذا التوجه رضخت وتعاطت معه كأمر واقع.
أما الشعارات الفارغة مثل «العهد القوي» أو «سياسة النأي بالنفس» والتي لا تعكس الواقع أبدًا إنما هي عكسه تمامًا فساهمت في القضاء على ما تبقى للبنان من دعم إقليمي وعربي وحتى دولي وتحول لبنان البلد المحبوب من كل العرب والإقليم وله أصدقاء كثر في كل مكان إلى بلد يعيش في عزلة غير مسبوقة، عزلة محلية (بين الشعب والطبقة السياسية) وعزلة إقليمية مع محيطه العربي وعزلة دولية.
لذلك يجب أن نكون موضوعيين عند الكتابة عن بلد نحبه ونحترم شعبه ولنا فيه أصدقاء هم بالنسبة لنا أهل وإخوة، ويجب أن نكون على أقصى درجات الصراحة والموضوعية وبعيدين عن العاطفة والمصالح الضيقة. ونقولها بكل حرص ومحبة للبنان وشعبه، إن بداية العلاج تكون في التشخيص الصحيح وتسمية الأمور بمسمياتها وبعدها يكون العمل الصعب ولكن من غيره لا وجود للبنان، وهذا العمل يبدأ بتفكيك «الدويلات» وبناء «الدولة» القوية لا العهد القوي ولا الوهم القوي، الدولة التي تكون المواطنة هي الأساس لا الطوائف والمحاصصة، المواطنة التي تكون مرجعيتها الدستور اللبناني والدولة اللبنانية ومؤسساتها ومصالحها القومية لا المصالح العابرة للحدود إما لخدمة مشاريع الغير سواء كانت إيران أو النظام السوري ولا حتى فرنسا أو أي دولة أو أطراف أجنبية أخرى.
إلى ذلك الحين، فأي دولة ممكن أن تكون وطنًا للشعب اللبناني إلا لبنان «المفقود».
*نقلاً عن صحيفة "الأيام"