أفكار صغيرة وكلمات كبيرة.. "هيمنجواى" يحاور "موسولينى"

أحمد المسلماني
نشر في: آخر تحديث:
وضع القراءة
100% حجم الخط

لطالما شاهدتُ أناساً يهرولون فى كل اتجاه، ويركضون فى كل موقع.. تبدو حركتهم الدؤوبة وكأنها تُنتج أعمالاً كثيرة ومفيدة. ولكنهم فى واقع الحال يقومون بالجرى فى المكان.. مجرد ضجيج جسدى من دون أى عائد. لقد وجدتُ تلخيصاً عميقاً لهذه الظاهرة فى مقولة الأديب الأمريكى هيمنجواى: إيّاك أن تربط بين الحركة والفعل.

لقد كان هذا الأسلوب الساحر هو طريق الصحفى إرنست هيمنجواى إلى جائزة نوبل فى الآداب. لقد عمل مراسلاً ومحرراً.. كاتباً للخبر والتقرير والمقال. وقد أخذَ من الصحافة ثراءها وبساطة أسلوبها، فنهضت أعماله الأدبية على كثيرٍ من الحكمة وقليلٍ من البلاغة.

إن ذلك المزيج هو ما جعل بعض مقولاته مثل: «السعادة هى صحة جيّدة وذاكرة ضعيفة»، وقوله: «يحتاج الإنسان سنتين ليتعلّم الكلام وخمسين سنة ليتعلم الصمت».. مقولات حاضرة حتى اليوم.

عاش هيمنجواى فى كوبا عدة سنوات، وفيها كتب روايته الشهيرة «لمن تقرع الأجراس» عام 1940، وفيها أيضاً كتب روايته «العجوز والبحر» عام 1952. كما امتلك منزلاً رائعاً فى فلوريدا على مقربةٍ من شواطئ كوبا، وفيه كتب «وداعاً للسلاح» و«ثلوج كليمنجارو». من المثير أن منزل فلوريدا الذى اشتراه عمّ زوجته وأهداه لهما فى حفل زواجهما كان سعر شرائه وقتها يعادل قيمة إيجار الولايات المتحدة لقاعدة جوانتانامو لمدة عامين، حيث تصل القيمة الإيجارية لجوانتانامو إلى (4) ملايين دولار سنوياً، بينما تمّ شراء المنزل بـ(8) ملايين دولار. وقد عاش هيمنجواى بين منزل فلوريدا وشواطئ كوبا.

أصبح منزل فلوريدا مَعلماً وطنياً تاريخياً عام 1961، وراح البعض هناك يبيع القطط بأسعار مرتفعة باعتبارها أحفاد قطط إرنست هيمنجواى!

لقد نال هيمنجواى شهرة واسعة من السينما، فقد أدّى نجاح أفلام «الشمس تشرق أيضاً» و«وداعاً للسلاح» و«العجوز والبحر» و«لمن تقرع الأجراس» و«فى الحب والحرب».. إلى أن يصبح الكاتب جماهيرياً وعالمياً بأسرع من الأدباء الآخرين.

كانت حياة هيمنجواى ممتلئة بالأحداث، حضر الحربيْن العالميتين، والحرب الأهلية الإسبانية. وفى أعماله امتزج الموت بالحياة. لقد عرض هيمنجواى فى روايته «وداعاً للسلاح» مآسى الحرب، فمن خلال سائق إسعاف أمريكى متطوع مع الجيش الإيطالى، يجرى عرض مآسٍ مروّعة للحرب الإيطالية على الجبهة النمساوية ثم على الجبهة الألمانية، وكيف لم يحتمل ما يجرى فهرب مع حبيبته إلى سويسرا قائلاً: «لقد عقدتُ سلاماً منفرداً».

ومن أعمق ما جاء فى هذا العمل تلك الإجابة الإيطالية على قول المسعف الأمريكى: الألمان يحاربون جيداً، حيث قال الإيطالى: «لا يعنى ذلك أنهم أفضل الرجال، لقد بنوا آلة حربية على مدى سنوات.. قطعة قطعة. بينما نحن الإيطاليون كنّا نتدرّب على أساليب الحضارة. الآن الحضارة غير مفيدة»!

فى رواية «العجوز والبحر» الحائزة على جائزة نوبل.. يضىء هيمنجواى على ذلك الصياد العجوز الذى مكث أكثر من ثمانين يوماً من دون أن يصطاد سمكة واحدة، فتراجعت مكانته، وانكسرتْ هيبته، وأصبح عنواناً على الفشل وسوء الحظ.

أصرّ الصياد الذى يكاد يقوى على الحركة على أن يستمر يوماً وراء يوم حتى يصطاد ويستعيد مكانته. ولقد نجح أخيراً فاصطاد سمكة عملاقة أكبر من قاربه. صار يحاول الإمساك بها مدة طويلة حتى يعود إلى الشاطئ. ولكن دماء السمكة كانت قد جذبت أسماك القرش التى نهشتها على امتداد الرحلة. أمّا الصياد العجوز الذى رفض أن ينتقل للعيش مع ابنته فى هافانا، أو أن يختتم حياته فاشلاً، أصرّ على الوصول بما تبقى منها.

وصل الصياد ومعه هيكل السمكة العملاقة.. وسط إعجاب الجميع، فاستعاد اعتباره. لقد اشتهر حديثه إلى السمكة وهى تجذب قاربه إلى حيث تريد الهروب: أيتها السمكة المتجبِّرة.. لن أستسلم. إنك قد تقتليننى، ولكن من المستحيل أن تهزمينى».

لم يفعل هيمنجواى كما فعل العجوز فى البحر، بل إنه حين اشتدّ به المرض قرر الانتحار، أطلق رصاصة من بندقيته فأنهى حياته. ومن اللافت أن أختيْن له، وحفيدة -بعد ذلك- قد انتحرن أيضاً!

ولد إرنست هيمنجواى عام 1899، ورحل عام 1961.. وعبْر هذه الرحلة كانت هناك محطة مثيرة للغاية، هى محطة فى الصحافة والسياسة، حيث أجرى هيمنجواى حواراً صحفياً مع الديكتاتور الإيطالى موسولينى فى ميلانو عام 1922، ثم أجرى معه -ضمن آخرين- حواراً صحفياً ثانياً فى لوزان عام 1923.

فى عام 1922 كان هيمنجواى يقضى إجازة «شهر العسل» مع زوجته الأولى «هادلى» فى إيطاليا. كان عمره 23 عاماً وكان يعمل صحفياً فى صحيفة «ديلى ستار». وحين كان فى ميلانو سمع أن موسولينى فى المدينة. ذهب هيمنجواى وأجرى معه حواراً عبّر فيه عن إعجابه بموسولينى، ونشر الحوار فى «ديلى ستار» عدد يوم 24 يونيو 1922 تحت عنوان «الحزب الفاشى.. نصف مليون».

يشير عنوان الحوار إلى تفاخر موسولينى زعيم الحزب الوطنى «الفاشى» بوصول عدد أعضاء حزبه إلى نصف المليون عضو. وقال موسولينى متحدياً: إن لدينا القوة الكافية للإطاحة بأى حكومة قد تحاول معارضتنا أو تدميرنا.

وصف هيمنجواى «موسولينى» وهو يداعب أذن كلبه وقال: «لقد رأى موسولينى أن الشيوعية غطت شمال إيطاليا، وهدّدت الملكية الخاصة، فقام بتنظيم قوات الصدّمة الفاشية المناهضة للشيوعية. الآن هم نصف مليون شخص، ويسيطر حزبهم السياسى العسكرى على إيطاليا، من روما إلى جبال الألب». «إن موسولينى الوطنى قبل كل شىء.. قد ظُلِم. لقد كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لى.. إنه ليس ذلك الوحش الذى تم تصويره».

بعد حواره مع موسولينى فى ميلانو، تراجع إعجاب هيمنجواى بالزعيم الفاشى تدريجياً. وحين أجرى معه الحوار الثانى فى لوزان على هامش مؤتمر لوزان للسلام.. كتب هيمنجواى فى «ديلى ستار» بتاريخ 27 يناير 1923 تقريراً بعنوان «موسولينى.. أكذوبة أوروبا الكبرى». قال هيمنجواى: «إنّه الخدعة الكبرى فى أوروبا.. إنه يفلسف الأفكار الصغيرة بالكلمات الكبيرة».. «ليس على الرجال الشجعان أن يخوضوا المبارزات، فى حين أن كثيراً من الجبناء يبارزون باستمرار، حتى يرسخوا فى أنفسهم الشعور بأنهم شجعان».

ثم يروى هيمنجواى موقفيْن مثيريْن حدثَا أثناء اللقاء. الموقف الأول: «حين دخلنا عليه كان يمسك بكتاب، وكان مستغرقاً فيه، لم يرفع نظره إلينا، كان تركيزه فى الكتاب شديداً للغاية. شببتُ على أطراف أصابعى خلفه لأرى ما هو الكتاب الذى يقرأه بهذا القدر من الاهتمام. لقد كان معجماً من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية.. لكنّه كان ممسكاً بالمعجم فى وضعٍ مقلوب»!

والموقف الثانى: «جاءت بعض النساء الإيطاليات اللائى يعشن فى لوزان يحملن الورود لتحيّته. نظر إليهن باستعلاء وتركهن، لأنهن لا يتسمن بالجاذبية. وأمّا السيدة الجذابة «كلير شيريدان» فقد ابتسم لها، وبعد ذلك تحدث معها لمدة نصف ساعة»!

إن أروع ما جاء فى مقال هيمنجواى قوله: «إن موسولينى منظّم قوى. لكنّه من الخطير للغاية.. أن تقوم بتنظيم وطنيّة أمة.. إنْ لم تكن مخلصاً».

لا يزال الأديب الأمريكى إرنست هيمنجواى يحظى بشهرة واسعة، ولا تزال أعماله توالى توزيعها المرتفع. فى تقديرى، فإنّ «نجيب محفوظ» أكثر عمقاً وأغزر فكراً. إن مساحة الحكمة وسبْر أغوار الأشخاص والأحداث عند نجيب محفوظ تفوق هيمنجواى، ولكن بينما لم تتوقف مبيعات الأديب الأمريكى ذات يوم.. فإن كل مبيعات الأدب العربى أقل من هيمنجواى!

نقلا عن "الوطن"

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
انضم إلى المحادثة
الأكثر قراءة مواضيع شائعة
  • وضع القراءة
    100% حجم الخط