هل بدأ التراجع الإيراني في الإقليم؟
هذا هو السؤال المطروح اليوم ونحن على مسافة أربعين يوماً من موعد الانتخابات الأميركية التي ستكون لها انعكاسات كبيرة على السياسة التوسعية الإيرانية في الإقليم، بعدما نعمت طهران خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بـ"ضوء أخضر" للتوسع في المنطقة تحت ستار إبرام "الاتفاق النووي" الذي كان أوباما ضنيناً به، ويعتبره أهم إنجاز في ولايته، وإرثاً تاريخياً كان سيُحفظ له في ما بعد.
والحال أن الإيرانيين استغلوا المفاوضات مع مجموعة 1+5، ثم إبرام الاتفاق من أجل أن يستخدموا أموال ايران المحتجرة التي أُفرج عنها خلال الاتفاق وبعده، لكي يندفعوا أكثر في اتجاه توسيع رقعة نفوذهم في المنطقة، حتى وصل الأمر بالمسؤولين الإيرانيين الى الإعلان أن بلادهم تسيطر على أربع عواصم عربية، هي بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء، فيما كانوا يهددون بإسقاط عواصم أخرى في الإقليم! ولا بد من الاعتراف بأن الإيرانيين حققوا تقدماً استراتيجياً هائلاً في مواجهة النظام العربي الرسمي، وحققوا في مكان ما "نبوءة" الملك الأردني الذي تحدث قبلها بأعوام عن مشروع "الهلال الشيعي" الذي كانت تخطط له طهران.
ولا بد من الاعتراف أيضاً بأن الإيرانيين أحسنوا استغلال الانقسامات العربية، وضعف الرد العربي المنسق لمنعهم من التقدم، فضلاً عن غياب استراتيجية عربية جماعية وواضحة لمواجهة الخطر الآتي من الشرق. أكثر من ذلك، شكّل التوسع الإيراني نموذجاً جديداً في أساليب بسط السيطرة الخارجية على دول عربية، من خلال اختراق للنسيج الاجتماعي لدول كانت في الأصل مركّبة. وقد نجح الإيرانيون في عملية الاختراق، وتفخيخ المجتمعات العربية في البلدان الأربعة التي تمكنوا منها، من العراق الى لبنان، مروراً بسوريا واليمن.
وهذا الواقع يسجل للإيرانيين الذين نجحوا في بناء استراتيجية متماسكة، وطويلة الأمد، مستغلين التواطؤ الأميركي في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما الذي يمكن اعتبار ولايته الرئاسية الأسوأ في ما يتعلق بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ويكفي أن نذكر هنا كيف تراجع أوباما عن مبدأ "الخط الأحمر" الذي كان قد رسمه لنظام بشار الأسد غداة استخدامه السلاح الكيماوي ضد شعبه في صيف 2013. وأعقب هذا التراجع المخيف أمام هول الجريمة، إعطاء أوباما ضوءاً أخضر لروسيا للتدخل في سوريا خريف 2015، لإنقاذ النظام الذي كان على مشارف الانهيار، ومعه المنظومة الإيرانية الداعمة له، فانقلبت موازين القوى بفعل استخدام روسيا سلاحها الجوي بوحشية فائقة من دون أي اعتبار للأهداف المدنية، حيث حصلت جرائم كبرى في جميع المدن السورية التي استهدفها الطيران الروسي. هذا الأمر استغلّته إيران أيضاً، لترسيخ سيطرتها على الساحة السورية، وخصوصاً أن التدخل الروسي تركز على الجو، فيما التدخل الإيراني عمل على الأرض، بطريقة منهجية، أدت في معظم الأحيان، الى تحقيق هدف التطهير العنصري الطائفي في العديد من المناطق، من أجل ضرب المعادلة الديموغرافية، وتغيير معالم الديموغرافيا السورية التقليدية الى الأبد.
هكذا استغل الإيرانيون السياسة الأميركية (أوباما) المتسامحة الى حد التواطؤ للتوسع في الإقليم، وبطرق مختلفة، بحيث حقق الإيرانيون انقلاباً كبيراً في اليمن، مهددين قلب الجزيرة العربية، كما سيطروا على القرار السياسي والأمني والعسكري في لبنان، مستغلين خوف القيادات المعارضة لذراع إيران في بلاد الأرز ("حزب الله") من الاغتيالات، والعنف، والابتزاز من كل الصنوف، فحققوا خلال مدة قصيرة اختراقاً جوهرياً في بنية النظام اللبناني، وصولاً الى إيصالهم الجنرال ميشال عون الى سدة الرئاسة، وفوزهم بعدها بسنة بالغالبية في مجلس النواب.
كل ما تقدم يشير الى أن الإيرانيين الذين يعانون اليوم السياسة المتشددة التي يواجههم بها الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، حصلت من جراء التراخي والتواطؤ أيام باراك أوباما. أما عندما تشددت الولايات المتحدة مع طهران فقد صارت الأخيرة في حالة من الحصار المستمر في كل مكان، بدءاً من الداخل الإيراني على الصعيد الاقتصادي في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثاثية على الصعيد الأمني (حوادث التفجير الغامضة المتواصلة منذ شهور). كما في الداخل الإيراني، تشهد إيران حصاراً من نوع مختلف على الساحة العراقية، انطلاقاً من التظاهرات الشعبية الكبيرة التي استهدفت أدواتها (الحشد الشعبي والميليشيات التابعة)، وصولاً الى تعرض مراكز عسكرية تابعة لـ"الحرس الثوري" تحت غطاء "الحشد الشعبي" لضربات مجهولة المصدر يُرجّح أنها أميركية وإسرائيلية. ولعل ما شهدته الساحة السورية من استهداف للوجود الإيراني المباشر وغير المباشر (الميليشيات وفي مقدمها "حزب الله") بضربات جوية (إسرائيلية) مكثفة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، يشير الى أن الساحة السورية ما عادت ساحة مفتوحة على مصراعيها أمام السياسة التوسعية الإيرانية. أما انهيار الواقع اللبناني، وسقوط كل الصيغ السلطوية التي خدمت السياسة الإيرانية عبر "حزب الله"، فمؤشر آخر على أن لبنان الواقع تحت السيطرة الإيرانية شبه التامة، ما عاد هذه القاعدة الآمنة كما كانت عليه الحال قبل وصول ترامب الى البيت الأبيض، وأن الأمور هناك هي في طور التغيير وإن يكن بطيئاً حتى الآن.
كل ما تقدم يفيدنا بأن ثمّ قاعدة تُطبق على الاستراتيجية الإيرانية، مفادها أنه كلما تراجع الأميركيون، أو تواطؤوا مع طهران، تقدمت الأخيرة وغيرها من القوى الإقليمية (تركيا مثالاً) في المنطقة، وكلما تقدم الأميركيون، أو تشددوا في التعامل مع السياسات التوسعية الإيرانية حاصروها، وهددوا نظامها في عقر داره في سبيل انتزاع تنازلات أو تغيير سلوك نظام عدواني.
أما بالنسبة الى الجواب عن السؤال المطروح في العنوان، فجل ما يمكن قوله أنه بدأ حقاً، ولكن ونحن نقترب من موعد الانتخابات الأميركية، وفي حال التجديد للرئيس الأميركي دونالد ترامب لولاية جديدة، فسوف يستمر التراجع الإيراني في الإقليم ويترسخ أكثر في جميع الساحات. أما في حال فوز جو بايدن بالرئاسة فاحتمال العودة الى ما يشبه حقبة باراك أوباما سيكون كبيراً وواقعياً!
* نقلا عن "النهار"