ماكرون والانفصال الشعوري بين ساركوزي والقذافي وسيد قطب
في آخر مقابلة تلفزيونية حصرية سبق وأجريتها مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، عشية عدوان الناتو على ليبيا، وهي بالمناسبة آخر مقابلة يجريها الرجل. قال لي القذافي وبشيء من المرارة والغضب والشعور بالغدر: "أنا اللي وصّلت ساركوزي للسلطة، وأنا اللي دعمته بالمال حتى أصبح رئيسا، وجاني هنا في الخيمة وهو وزير داخلية، وطلب مني الدعم، وأعطيناه الفلوس، دعم مصاري، وأصبح رئيسا، ومفروض هو يقعد ساكت وما يفضح نفسه، لكن أنا تقديري إنه أصيب بخلل عقلي، تماما مثل ريغن. ويومها ضحكوا علي الأمريكان، وبعدين قالوا لي الإنجليز عندك حق تبين لنا أن ريغن مختل عقليا ويعاني من الزهايمر. وغدا سيتأكد الفرنسيون أن صديقي العزيز ساركوزي عنده خلل عقلي".
وفي دردشة على هامش المقابلة قلت للقذافي لربما يستخدمون تصريحك عن تمويل ساركوزي انتخابيا للتحريض عليك داخليا، فأجاب القذافي: "السطحيون والسذّج يمكن أن يحرّضوا صحيح. لكن هذه معركة ينبغي أن نخوضها على المسرح الدولي. وعلى الشعب الليبي والعرب أن يفخروا ويتفاخروا أنه في وقت ينصّب علينا "كرازايات"، نصنع نحن رؤساء دول كبرى عضو في مجلس الأمن وليس في إفريقيا فقط".
أهمية استعادة هذه الفقرة من مقابلتي مع القذافي، تأتي في سياق السابقة الخطيرة وغير المسبوقة في تاريخ رؤساء فرنسا. إنها السابقة التي توجه فيها النيابة المالية الوطنية الفرنسية لرئيس فرنسا السابق نيكولا ساركوزي تهمة تشكيل "عصابة إجرامية" بعد جلسات تحقيقية امتدت على أربعة أيام في احتمال حصوله على تمويل ليبي لحملته الانتخابية في آذار / مارس 2007. وتضاف التهمة الجديدة التي سبق أن اتهم بها أحد مساعدي ساركوزي "تييري غوبير" نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، إلى ثلاث تهم أخرى سبق ووجهت لساركوزي في سياق الملف نفسه عام 2018 وهي "الرشوة" و"اختلاس الأموال العامة" و"الحصول على تمويل غير قانوني لحملته الانتخابية". وفي تصريح على حسابه الفيسبوكي قال ساركوزي "صعقت بهذه التهمة الجديدة، وامتهنت براءتي مجددا بقرار لا يقدم أي دليل على تمويل غير مشروع".
صعقة ساركوزي ناجمة عن صدمته، من مطاردة الزعيم الليبي الراحل المتواصلة له ومن قبره المجهول. فلربما دار بخلد ساركوزي عندما جيّش الأساطيل للقضاء على الدولة الليبية واغتيال القذافي، أنه سيكون بمأمن من انتقام العقيد، لأن أسرار القذافي وخاصة تلك المتعلقة بتمويل حملته الانتخابية وغيرها من الأسرار الثمينة ستموت معه. ولعلّ صفة الغدر التي لربما اكتسبها ساركوزي من معاشرته حكام قطر من أثمن الأسرار التي يرجح أن تكشفها محاكمته. صفة الغدر تلك، مناقضة لصفة الوفاء التي امتاز بها سلفه فرنسوا ميتران عندما اعتبر أن إنقاذ الجنرال ميشال عون من مصير محتوم مسألة تخص شرف فرنسا.
جدير بالذكر أن ساركوزي توسل في غزوته الليبية للقضاء على القذافي ونظامه، كل معارضي القذافي وخصوصا قيادات وعناصر الحركات الجهادية ومنهم أولئك الوافدون من أفغانستان، وليس فقط حركات الإسلام السياسي بقيادة الإخوان، الذين باتوا زمن ساركوزي ومرشدهم الأعلى برنار هنري ليفي يعرفون أزقة الشانزيليزيه وشوارع باريس، أكثر مما يعرفون أزقة الساحة الخضراء وشوارع طرابلس.
لقد كان الجهاديون الليبيون ونظرائهم من الجنسيات الأخرى، إبان عدوان الناتو على ليبيا ورأس حربته ساركوزي بمثابة جيش الناتو البري. فكلنا يذكر التغطية التلفزيونية العالمية، لطائرات الرافال الفرنسية عندما كانت تتسابق مع الأباتشي الأميركية والبوارج التركية، على القاء الأسلحة والذخائر والمناظير الليلية والمؤن وأجهزة الاتصال، لمجاهدي الناتو وإسلامييه وهم يتقدمون باتجاه المدن الموالية للقذافي، وصولا إلى طرابلس التي دخلها ساركوزي ومعه كاميرون بريطانيا وهيلاري كلينتون كغزاة بثياب المحررين.
لكن سقوط طرابلس لم يؤدِ إلى إيقاف العملية العسكرية. فالمهمة لا تنتهي إلا بشطب معمر القذافي، كي يطمئن ساركوزي وكلينتون وأمير قطر على أسرارهم. لهذا أطبقوا على مدينة سرت التي تحولت معالمها إلى أطلال وباتت وخصوصا الحي رقم 2 فيها بمثابة ستالينغراد العصر. وقد أسدل الستار على الحرب الكونية الحقيقية ضد ليبيا القذّافية باغتيال القذّافي على أيدي مجاهدي الناتو في مدينة مصراتة، بعدما تعرض رتله المتجه من سرت باتجاه وادي جارف إلى قصف مركز بقنابل الغاز من مقاتلات فرنسية وناتوية.
ما تقدم ضروري بالنظر لما تعيشه فرنسا من لحظات فارقة. يشكل رئيساها السابق نيكولا ساركوزي والحالي إيمانويل ماكرون حجري الرحى فيها، أما فرنسوا هولاند فقد بدا بمثابة مرحلة انتقالية بين الساركوزية والماكرونية.
فما فعله وافتعله ساركوزي في ليبيا وغيرها (وحاول أن يفعله هولاند في سوريا وعبرها)، وتخادمه الوثيق مع الإخوان والجهاديين الليبيين بتسييل كامل من حكومة قطر وأذرعتها القرضاوية الإخوانية والإعلامية، وتحت نظر تركيا وسمعها ورعايتها، أسهم وبشكل حاسم فيما تعيشه فرنسا الماكرونية اليوم من لحظات قلقة في تاريخها. فقد تحوّل التخادم بين فرنسا الساركوزية والإسلام السياسي والجهادي من نعمة إلى نقمة على فرنسا الدولة العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة، وهو أمر مختلف عن الفصل بين الدين والمجتمع.
فمشروع قانون "الانفصال الشعوري" الذي بدأ ماكرون وحكومته العمل عليه في فبراير/ شباط الماضي، ويرجح أن يعرضه ماكرون الجمعة المقبل، سابق لحادثة شارلي ابدو، وأيضا لذبح المدرس الفرنسي صامويل باتي على يد الطالب الفرنسي الشيشاني عبدالله أنزوروف، ولكن الحادثتين كثفتا شحن الأجواء الفرنسية لتهيئة الرأي العام لقانون الانفصال.
تصريحات ماكرون، الوافد إلى السياسة من العوالم المالية والاقتصادية، وليس من العوالم الفكرية أو الفقهية، حول محاربة ما سمّاه "النزعات الانفصالية" داخل المجتمع الفرنسي، عبر سنّ قانون الانفصال الوشيك، الذي يهدف بحسب ماكرون إلى "مكافحة من يوظفون الدين للتشكيك بقيم الجمهورية". فالانفصال الشعوري، الذي يبدو أنه مقتبس بشكل معاكس من فكرة "العزلة الشعورية" لمنظّر الإخوان سيد قطب (التي تقول باعتزال الإخوان عن بقية المسلمين بوصفهم الأنقى والأرقى والممثل الحصري للإسلام)، سيّما وأنه يأتي في سياق محدد يستهدف الإسلام الراديكالي الساعي إلى "إقامة نظام موازٍ وإنكار الجمهورية" في فرنسا التي عليها "التصدي إلى الانعزالية الإسلامية" بحسب تصريحات ماكرون، الذي اعتبر أيضا أن "الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم". وهي التصريحات التي أثارت وتثير الكثير من ردود الفعل الغاضبة والمتضاربة داخل فرنسا وخارجها، وضمنا الأردوغان الذي اعتبر أن ماكرون هو من يعيش في أزمة.
إنها التصريحات التي سبقها عشية زيارة ماكرون إلى بيروت بداية أيلول سبتمبر الماضي، اعتبار "جيرالد دارمانيان" وزير الداخلية الفرنسي "أن الخطر الإرهابي يبقى التهديد الذي تواجهه فرنسا، داعيا إلى التنبه لوجود مجموعات متطرفة أو أفراد معزولين في الداخل يؤيدون اللجوء إلى العنف"، مضيفا "لن نتوقف أبدا عن مطاردة أعداء الجمهورية بدون هوادة"، وإن "التهديد الذي يطرحه أنصار الإسلام الراديكالي بات تحديا متناميا لأجهزة الاستخبارات التي تقوم اليوم بمتابعة 8132 شخصًا مدرجين على هذه القائمة".
إنه الإرهاب الذي تعتبر فرنسا أنه يتهددها اليوم، بخلاف الولايات المتحدة التي تعتبر أن لداعش والقاعدة نظراء من الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، والذين تم تصنيفهم وإدراجهم على اللوائح الأميركية للإرهاب. وتطالب واشنطن بتصنيفهم على اللوائح الأوروبية أيضا. ما يعني أن ثمة قطبة مخفية تموّه سبب مغالاة ماكرون في مغازلة ايران وأذرعتها في المنطقة.
وبالعودة إلى الوفاء والغدر، يُسجل للولايات المتحدة استذكارها الدائم لمقتلة جنودها في تفجير مقر المارينز في بيروت. وفي المقابل يسجل لباريس نسيانها الدائم لمقتلة فرقة مظلييها في بيروت تزامنا مع تفجير المارينز ويومها لم تتهم باريس وواشنطن جماعات إرهابية بهاتين المقتلتين.
ما تقدّم يشي بأن فرنسا الساركوزية والماكرونية، تخادمتا مع الجماعات الجهادية والإخوانية سلبا وإيجابا ولحسابات مختلفة. بعضها مغلّف بتأمين مصالح حيوية لفرنسا، وبعضها يرجح أن يكون بهدف مصالح انتخابية كالتي يتوسّلها ماكرون الذي يعاني تدنيا كبيرا في شعبيته، ما جعله يزايد على خطاب زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف "مارين لوبان"، خصوصا بعد "حفلة الخيانة الجماعية" التي قال ماكرون إنه تعرض لها من المسؤولين اللبنانيين جراء تنكرهم للالتزام بالمبادرة الفرنسية. فوجد في "الإسلام الانعزالي" ضالته ليشن هجومه المركز على جمعيات ومؤسّسات إسلامية تمت متابعتها ورصدها، تحت شعار حماية قيم الجمهورية.
لكن "قيم الجمهورية" التي ما فتىء ماكرون وساسة فرنسا يتغنون بها، تكمن وبالضرورة في صحوة حقيقية تحتاجها هذه القيم، تتمثل في تعديلات تعاقب بالقانون مثل سلوكيات مجلة "شارلي ابدو" ورسومها المسيئة للنبي محمد، أسوة بقانون معاداة السامية والتشكيك بمحرقة الهولوكوست، كما تتمثل أيضا في تصحيح مبدأ محاكمة ساركوزي لتكون على الدمار والضحايا والدماء التي أهرقها غدرا في ليبيا. وليس على حقيقة حصوله على تمويل ليبي، قام ساركوزي بالغدر بصديقه القذافي كي يدفن "الأدلة" معه في قبره المجهول.
كما وتكون في اعتذار ماكرون عمّا فعله أسلافه خصوصا في الجزائر (التي لم تزل بعض جماجم قادة ثورتها التحررية محتجزة في "متحف الجماجم" في باريس حتى يومنا هذا، فقطع الرؤوس بدأه الاستعمار الفرنسي في الجزائر ولم يبدأ بالمدرس الفرنسي)، والتعهد بتجريم الاستعمار وعدم تكراره مرة أخرى بوصفه أحد مناجم الإرهاب، وليس بتطبيق قانون "العزلة الشعورية" لصاحبه سيد قطب، (وراعي ورثة "قطبيي الإخوان" الرئيس التركي رجب طيب أردوغان)، وليتم تقسيم الفرنسيين وتصنيفهم على أساس "دينوغرافي" الأمر الذي من شأنه أن يعيد فرنسا إلى حقبة ما قبل عصر الأنوار.