أشواق الكويت لصوت الحكماء
يقترب يوم التصويت في موسم انتخابي كئيب سيطرت عليه مخاوف وباء كورونا التي تزداد مع الاطلاع اليومي على أعداد ضحاياه تنقلها وسائل الإعلام بذراع تكنولوجية عبر محيطات وقارات، لم تستطع صد الوباء الطاير، متحدياً أهل الطب وتحذيراتهم، متوسعاً في اختياراته من البشر.
في هذا الجو البائس يجد الكويتيون دعوة مفتوحة للقيام بالواجب الدستوري في انتخابات برلمانية ضرورية لاختيار من يتصورونه جديراً بالأمانة ومستحقاً للمسؤولية التي يتحملها أعضاء البرلمان المنتخب كما رسمها الدستور، وهو المرجعية المتحكمة التي تستند عليها الكويت في تحقيق الشراكة الشعبية الشرعية لنظام الحكم فيها.
وفي هذا الصدد، أود أن أبدي بعض الملاحظات:
1 - قام الشيخ عبدالله السالم بزيارة العراق في مايو 1958، قبل الثورة العراقية بخمسة أشهر، وهناك أجرى مباحثات واسعة مع الملك فيصل وعبدالاله ونوري السعيد، حيث حاول هؤلاء الثلاثة إقناع الشيخ عبدالله السالم بانضمام الكويت للاتحاد العربي الهاشمي، ورفض الشيخ بشدة هذه الفكرة، وزاد قلقه عندما شعر بأن بريطانيا تحبذ مقترح انضمام الكويت للاتحاد، وواجه بقوة السفير البريطاني في بغداد، طالباً موقفاً بريطانياً محدداً من وزير خارجية لندن لتأكيد استقلال الشأن الكويتي عن اعتبارات الاتحاد الهاشمي، وجاء التأكيد من ماكميلان، رئيس الوزراء، بالتزام بريطانيا بمعاهدة الحماية لعام 1899، مبدداً المخاوف التي يحملها الشيخ الجليل، الذي رغم ذلك، ظل غير مستريح من ميل بريطانيا نحو الاتحاد. وعندما عاد الشيخ عبدالله إلى الكويت بدأ في التواصل المستمر عبر اجتماعات صباحية مع المقيم البريطاني، تتم عادة في قصر دسمان مردداً قلقه خلال هذه الاجتماعات حول سلامة الكويت وأمنها. وظلت هذه الاتصالات حاملة هموم الشيخ الأمنية، وزادت المخاوف مع الثورة العراقية في يوليو 1958، الأمر الذي جعل الشيخ عبدالله لا يهدأ في بحثه عن صيغة تزيل قلقه وتؤمن له سلامة الكويت مستقبلاً. من هذه الشكوك في نوايا الأصدقاء، ومن تفكير الشيخ عبدالله لضمان مستقبل الكويت نبع مشروع شراكة الحكم الثنائية التي تتجسد في تواجد شعبي دستوري يرافق أسرة الحكم في مسؤولية الحفاظ على أمن الكويت وسيادتها.
2 - جاء الدستور ترجمة لتصور الشيخ عبدالله لصيغة الحكم، كآلية تحقق أهداف الاستقلال في توفير الخلطة الآمنة، ودعامتها الشراكة بين الأسرة والشعب، تتميز بروح الاعتدال والعقلانية، ولهذا جاء الدستور رافضاً الأيديولوجيات، خالياً من التحزبات، لا مكان فيه للحزبية الراديكالية، سواء في المحتوى القومي أو الديني، يعتمد أسلوب الشراكة على وعي الطرفين بأن مهمة المجلس ترسيخ الكويت أمناً وسيادة، وتطويرها وفق السلوك المستنير، بلا مضايقات من أي طرف في تبادلية صدق النوايا، ووحدة الهدف، مع التسلح في السلوك بتراث الكويت التاريخي في الاعتدال والمرونة.
3 - لم تسر قافلة الدستور كما تمناها الشيخ عبدالله، فبعد غياب المؤسسين الأوائل المتشبعين بروح الشراكة الأمنية، والملتزمين بروحها، تحول المسار إلى مناكفات بعد انحسار الالتزام بقواعد سلوك الشراكة، وتجاوز الاختصاصات، فصار النواب يتناكفون مع وزراء بحثاً عن توسطات ترضي الناخبين، ومن هنا، برزت ظاهرة نواب الخدمات، التي يتحمل مسؤولية اتساعها الجهاز الاداري في عدم التزامه بسيادة القانون وتطبيقه على الجميع من دون مجاملات، ومن هذا الاهتزاز تسيد أسلوب التوسط ومفاهيم الوساطة، ولم يعد القانون سيد الأحكام، واتجهت أنظار بسطاء المواطنين نحو منصات نواب الخدمات الذين أفرطوا في التكيف معها.
4 - لم يخرج من التجربة الكويتية المناخ التعبوي، يتسيد فيه ممارسون للعمل السياسي يستهدون بالدستور ويشكلون الريادة، في بث الثقافة الدستورية، لكي يخرج شباب نحو الاحتراف البرلماني، وهناك أسباب كثيرة لهذا التراخي، وأبرزها غياب الانصار والمؤيدين بين طرفي الشراكة، فالضيق من علو السقف الذي يتبناه النواب في تفسير معاني الدستور أدى إلى تأزيمات تطفو على فترات، يرافقها تعطيل للمسيرة أحياناً وفق الحل الدستوري، وأحياناً بأمر من الأمير، فتهتز الشراكة ويتعاظم النقد والانكفاء.
5 ــ بعد مرور ستين سنة من التجربة هناك عدة شروط لا بد من تواجدها من أجل أن تعبر التجربة وتتجاوز صخور التعثر، أولها حسن الاختيار من قبل الناخبين للعقلاء من المرشحين المتفهمين لواقع الكويت، وحسن اختيار الوزراء الملتزمين بتطبيق القانون الرافضين للتوسطات، أصحاب تطبيق قرار بلا تردد، وابتعاد النواب عن المبالغات في المطالب الشائكة مع الحذر من اللجوء التلقائي الى الاستجوابات المعطلة التي استسهلها النواب بشهية دائمة.
وأهم من ذلك كله حرص الطرفين على حماية التجربة ورعايتها بالاهتمام من أجل صون التعاون لتعميق جذور الخلطة الأمنية، التي جاءت من قلق قيادي على واقع الكويت والاستذكار بأن الهوية البرلمانية الكويتية قائمة على التراضي السياسي والاجتماعي، ولا تستوعب لا في روحها ولا في جسدها اقتطاف أمثلة مستوحاة من تجارب الآخرين، مثل تدوير السلطة أو أحزابها، أو منصات تنادي بأفكار فلاسفة الشرق والغرب.
ستكون الكويت في الخامس من الشهر المقبل، أمام المعبر الآمن إلى مستقبل أجمل على شرط حسن الاختيار وفق قواعد الواقع الكويتي، ومن دون ذلك سنواصل الجدل، بينما يتحرك شركاؤنا في مجلس التعاون بخطوات أسرع وأكثر إنجازاً، وبندرة من الجدل، والمسؤولية بيد الناخب. رثاء الشيخ خليفة بن سلمان انتقل إلى رحاب الله الشيخ خليفة بن سلمان، الذي قاد البحرين لنصف قرن، سخر حياته لهذا المسار الطويل، هضم فيه كل تفاصيل البحرين، واندفع لتوفير أحلامها مستخلصاً خطواته من تعايشه مع أبناء البحرين بكل طوائفهم وخلفياتهم. أتاحت لي حياتي في مجلس التعاون الحوار معه والوقوف على تصوراته والاعجاب بحماسه للتجربة الخليجية الجماعية، مدركاً أهميتها للبحرين، ومقدراً دور دول المجلس في رعاية رقة البحرين وتأمين سلامتها.
كان بطء المسيرة يضايقه وتردد الدول يزعجه، وتأخر تجاوبها مع صوت المستقبل الخليجي يثيره، وقد قدم لي اقتراحاً في واحد من اللقاءات معه، بأن يعقد رؤساء الحكومات في دول المجلس اجتماعات دورية، لأن غيابهم عن المجلس يشكل ضعفاً له، وحملت هذا المقترح إلى الدول الأعضاء، خاصة بعد دعم المرحوم الشيخ سعد العبدالله لهذا التوجه، لكن للأسف كان رأي القادة عدم التضخم في هيكلة العمل في المجلس، ولم يكن الشيخ خليفة بن سلمان راضياً عن تلك الحصيلة، ولم يكن الآخرون أيضاً، لكن الترشيق الهيكلي كان ضرورة.
تحمل المرحوم الشيخ خليفة أثقال وقاية البحرين، وتأمين سلامتها ولم يتردد في توظيف كل ما يمكن الوصول إليه لتكون البحرين جزيرة استقرار وازدهار، متسلحاً بالوعي التاريخي للظروف التي عاشتها البحرين لا سيما دوره البارز في مفاوضات سويسرا مع الوفد الإيراني بمشاركة كويتية قادها كل من سمو الشيخ ناصر المحمد والمرحوم السفير بدر خالد البدر، برعاية المرحوم سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر. وأكثر ما أعجبني في حصاده الوفير هو فرض الانضباط في السلوك العام للشعب البحريني، وصار الوفاء للقانون عنصراً مؤثراً في حياة هذا الشعب مع وعيه الكبير بالمخاطر النائمة التي تهدد البحرين، وقدرته في تحويل هذا القلق إلى هم خليجي جماعي..
رحم الله الشيخ خليفة وأسكنه واسع جناته، سيظل حياً في يقين مجلس التعاون وفي نبضاته.
نقلاً عن "القبس"