الحراك الفلسطيني قبل بدء ولاية بايدن
لم يشهد التاريخ السياسي المعاصر، في العالم العربي، لاسيما على صعيد الخلافات أو التباينات بين القوى السياسية؛ أغرب ولا أعجب مما حدث ويحدث بين فتح وحماس الفلسطينيتين. ويمكن القول بلا تردد، إن سياق هذه الخصومة، يستحث السخرية مثلما يستحث الأسف والتأسي. فالطرفان ينازع أحدهما الآخر، على سلطة لا يعرف هو نفسه ماذا سيفعل بها وإلى أي وجهة سيأخذها. ولعل افتقار طرفي الخصومة، إلى عنصر التمثيل الشعبي، من شأنه أن يزيد هذه الأحجية تعقيداً، لأن من يطمح إلى الحكم يُفترض أن يحمل مشروعاً مقنعاً، يوفر له التغطية الشعبية، بعد أن يعرض على الناس برنامجه الانتخابي، الاجتماعي والسياسي.
لكن واقع الأمر، هو أن الطرفين يتحاشيان الانتخاب، وليس لدى أي منهما برنامج عمل، بل إن المسكوت عنه من النوايا الراهنة، أكثر بكثير من المعلن عنه. وتحتاج كلٌ من فتح وحماس إلى مركز دراسات سوسيولوجية، لكي تصل إلى قدر من المعرفة، عن وجهتها السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تقدم وعوداً بشأنها، علما بأن الفلسطينيين الذين جربوا حكم السلطة برئاسة عباس، وحكم حماس في غزة؛ يعرفون طبائع الطرفين، وباتوا على يقين بأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وفي الحقيقة، اتسمت بعض أشكال الأداء السياسي لطرفي الخصومة، بالخفة والطرافة. فكلما اضطرت قيادات حماس والسلطة، إلى المسايرة بإظهار موقف إيجابي حيال موضوع المصالحة، فإنها تعود إلى استخدام صيغة التأكيد على جهوزيتها للوئام، وتشكر القائمين بالجهود لتحقيق وحدة الشعب الفلسطيني وإنهاء الانقسام، وفي أحد آخر التصريحات الحمساوية قبل أيام، تكررت الصيغة التي تدعو الحركتين إلى “بناء المرجعيات القيادية والوطنية والسياسية الفلسطينية، على أساس الشراكة في الإدارة والقرار”!
وبدت هذه الصيغة، مثالاً على الضعف المزري في ثقافة الدولة لدى طرفي الانقسام الفلسطيني. فكلاهما لا يريد أن يفهم، أن المتنافسين في ميدان السياسة، يستفيدون في الأساس من الكيان الوطني، الذي هو الصيغة المحايدة والضامنة لمبدأ الشراكة، وهو الذي يمنح الفرصة لأن يتحصل المتنافسون على أدوارهم، وليس المتنافسون هم الذي يمنحونه الحق في الوجود، ويمنحونه فضيلة الشراكة من فائض أفضالهم. فالطرفان مستضافان عند الشخصية المعنوية ذات الطبيعة التشاركية، وهي الدولة، التي لها دستور يسمى “النظام الأساسي”. فالأحزاب تتنافس في كنف الكيان السياسي وليست هي التي تمنحه شرط هيبته وفاعليته وتصنع له الشراكة والمرجعيات الوطنية.
معنى ذلك أن طرفي الانقسام في فلسطين لا يمتثلان لمرجعيات وطنية حددتها الدولة، في الوثيقة الدستورية، وإنما يريدان تفصيل كيان سياسي يحددون له مرجعياته ويقتسمان صلاحياته، وبعدئذٍ لن تكون هناك مشكلة في فشل الدولة واستمرار الانقسام عملياً على الأرض.
على هذا الأساس سيظل الطرفان يشكران كل الذين يبذلون الجهد لتحقيق المصالحة، ويتمسكان في الوقت نفسه ببحبوحة الانقسام، إلى ما بعد اكتمال الكارثة فصولاً.
في هذه الأجواء، تحرك رئيس السلطة محمود عباس خطوة في الفراغ، وتحدثت وسائل الإعلام عن تحرك رسمي فلسطيني، مع الشقيقتين مصر والأردن، وبدا الأمر كما لو أنه يمضي في اتجاه محاولة لبدء مفاوضات سياسية، وقد استتبع هذا الحديث، كلاما عن احتمالات استضافة القاهرة، محادثات فلسطينية ـ إسرائيلية.
الملمح الوحيد، الذي يُمكن أن يُرى من خلال الحراك الرسمي الفلسطيني الجديد، هو أن رحيل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، جاءت بمثابة دعوة مُحفّزة على التحرك، علماً بأن انسداد الأفق، إبان إدارة ترامب، كان أولى بالحركة الدائبة. غير أن الأطراف كلها لم تكن مستعدة لمجرد تدوير رأس القارب في الاتجاه المعاكس للوجهة التي أبحرت فيها الفرقاطة الأميركية. أما الآن، فقد شعر رئيس السلطة أن باستطاعته المحاولة من جديد، بأي صيغة أو بأي حيثيات، فهو على الأقل، سيلقى من يجيب، وفي الحد الأدنى يمكن أن تساعده العاصمتان العربيتان، على التواصل مثلما يرغب، مع دول الخليج.
المحمولات السياسية لهذا التحرك، اصطبغت أو تأثرت بمنحى التعجل في إعلان السلطة الفلسطينية عن عودة العلاقة الأمنية مع إسرائيل إلى مسارها السابق، هكذا مجاناً ودون إتاحة الفرصة لأن يلعب بهذه الورقة وسطاء يمكن أن يجلبوا لنا ـ في الحد الأدنى ـ تأمين وصول “المقاصة” كاملة. فمشكلة عباس أنه لا يتريث ويظن أن مجرد عضو من حاشيته على اتصال مع إسرائيل، أهم عنده من المؤسسات.
ولا يتردد المرء في القول، إن من بين أهم مقاصد عباس من التحرك الجديد، دحض الخيار الذي عبر عنه مؤتمر بيروت التلفزيوني أو الكاريكاتيري، وإدارة الظهر له علناً، بعد أن انتهت دواعي استخدامه. ومن بين المقاصد أيضاً، استبدال مشروع المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، بمشروع لكسب الوقت تحت عنوان مؤتمر دولي للسلام، وهذا هو الخط المريح لعباس، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فهذا الخط المريح، بما يرشح عنه من أفكار؛ لن يوصل إلى شيء، حتى ولو شوهد عباس ونتنياهو يجتمعان في القاهرة برعاية مصرية ويبتسمان أمام عدسات التصوير.
بالنسبة لنتنياهو، لسنا هنا معنيين باللجوء إلى العناصر الأيديولوجية للتعرف على خلفيات مواقفه. لكننا نقول إن هذا المراوغ الكذوب، في ذروة قوته السياسية، لم يكن يجرؤ أمام قاعدته الانتخابية المهووسة، على تقديم إسهام شكلي يساعد على التفكير في التفاوض، فما بالنا، بعد أن انتقلت المبادرة التي كانت في يده، إلى غريمه غانتس الذي حسم أمره وسيأخذه إلى انتخابات عامة، هي الرابعة منذ أبريل 2019. فهو مقيد بالسبب نفسه الذي يتوجب على عباس أن يستشعره، وهو الحاجة إلى تفويض فعلي، بالمعنى الدستوري. لكن عباس ـ للأسف ـ لن يفكر ولن يستشعر، ولا بصيص أمل في أن يبدأ عملية ديمقراطية ينتج عنها فريق فلسطيني مفوض من الشعب، وفي جعبته برنامج سياسي يمكن العمل به.
لقد قلناها مراراً ولن نمل من تكرارها: لا قيمة لحركة سياسية، انطلاقا من أرضية وطنية متصدعة ومشهد فلسطيني مفتت. وعندما يُستقبل عباس، ولا يُجيب عن الأسئلة الجوهرية، حتى دون أن يطرحها مضيفوه؛ فليس معنى ذلك أن أموره في ناظرهم على ما يرام، وأن هناك من النتائج ما يبرر نفقات السفر. هكذا نفهم معنى التحرك، ولو من باب الاستمرار في الإلحاح على الوحدة الوطنية على أسس دستورية وقانونية.
*نقلاً عن "العرب"