السودان وإثيوبيا.. لماذا الصراع الآن؟
ما يحدث الآن من حالة الحشد العسكري والاستنفار ونشر التعزيزات على الحدود الإثيوبية السودانية لا ينفصل عن تشعبات هذا الصراع بأبعاده القديمة الحديثة ولا عن الظروف الراهنة، فكلاهما يتماثلان في أوضاعهما الداخلية وطموحاتهما الإقليمية وواقعهما السياسي الهش.
السودان مثلاً يمر بمنعطف سياسي وتاريخي دقيق للغاية تداخلت فيه الأوضاع الاقتصادية المتداعية مع أحلام الدولة المدنية المنشودة والتي تتعثر بواقع تعقد الأوضاع من انهيار العملة وتراجع ضعف المؤسسات وحالة السيولة الأمنية والنظام الصحي المتداعي حد اللامنطق، الشاهد أن لقمة العيش اليومية أصبحت هدفاً صعب المنال ما يجعل حكومة المرحلة بشقيها تحت نيران السخط والانتقاد.
إثيوبيا كذلك لا تختلف عن السودان بشيء: أوضاع اجتماعية واقتصادية سيئة تقترن بصراع محتدم بين قومياتها الرئيسية من الأرومو والأمهرا والتقراي، ولكل منها طموحات تاريخية لفرض واقع جديد، التقراي مثلا بحسبهم تقاتل لإنهاء سيطرة الأمهرا والتي أصبحت سيطرةً اجتماعية وثقافية طالت كل مفاصل إثيوبيا، ما يُفسر بأن مواجهات هذه القوميات تقود نحو انهيار السلم الاجتماعي لبلد متعدد القوميات والأعراق، وبحسب التقراي وبعض القوميات الأخرى لا قدرة لرئيس وزرائهم آبي أحمد على إدارة هذه الصراعات لعدة اعتبارات من وجهة نظرهم، أهمها شرعيته السياسية مثار الجدل.
سد النهضة أيضاً زاد على عبثية المشهد الإثيوبي ما أضاف مع تمترس كل طرف من الأطراف الثلاثة (مصر وإثيوبيا والسودان) خلف مطالبه التي يراها حقاً شرعيا في حصته المائية وأمنه القومي ويرونه حقا لا نقاش فيه.
وحتى خطوة آبي أحمد بإعلان المصالحة مع إريتريا والتي تسلم جائزة نوبل للسلام على إثرها رآها البعض وقتها، أنها تنازل لاستقطاب (التقراي في إريتريا) لأي صراع في الداخل الإثيوبي كاستفادة بحسبهم من العداء التاريخي بين جبهة تحرير التقراي الإثيوبية (الوياني تقراي) وبين نظام الحكم في إريتريا، وهو ما يفسر التحالف القائم الآن بين آبي أحمد وقومية الأمهرا من جهة وإريتريا من جهة أخرى.
أما الأبعاد الإقليمية لهذا الصراع فلا تنفصل اليوم عن متغيرات السياسة الدولية تجاه إفريقيا عموماً، وتنافس النفوذ على منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي بين القوى الدولية بصورة خاصة، ما خلق سباقاً بين دول هذه الجغرافيا حول من منها ستفوز بلعب دور الدولة المركزية لشرق إفريقيا.
ومع انشغال آبي أحمد بصراعه مع التقراي مستخدماً (قومية الأمهرة العدو التاريخي لهم) استفاد السودان من هذا الوضع الهش لاستعادة أراضي الفشقة الحدودية المحتلة والتي فقدها بحكم الأمر الواقع وهشاشة وضعه أيضا في تسعينيات القرن الماضي بعد محاولة الإنقاذ اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك واستغلال إثيوبيا لذلك.
ولو سلمنا جدلاً بأن الأبعاد الشخصية مستبعدة في العلاقات الدولية ويقال إنها غير واردة إلا أنها اليوم فاعلة في تحركات كل طرف، فآبي أحمد رجل السلام حصرته جائزة نوبل في زاوية لا تميل للمواجهات لكن حكمه المهدد من التقراي والأرومو وقوميات أخرى لها طموحات لتطوير وجودها وتسعى لخلق عدالة اجتماعية من منظورها كل هذا خلط أوراقه الداخلية وجعل من قومية الأمهرة حليفاً استراتيجياً له وهو حليف يرى الفشقة السودانية امتداداً تاريخياً لهم.
ولا يخفى أن المكون العسكري في السودان يعاني صعوبات إدارة الشراكة مع المكون المدني ويواجه حملات تخوين كبيرة، ومنذ سقوط البشير قد تكون هذه هي أول فرصة للمؤسسة العسكرية السودانية لتستعيد صورتها الوطنية التي تدحض ما يروج له منتقدوها أنها لا توجه سلاحها إلا لصدور الداخل، لكن ذلك لا يبتعد كثيراً عن حقيقة تمكنها في السنوات الأخيرة من بناء جيش بمقدرات كبيرة من خلال تحالفات إقليمية مكنتها من تلقي دعم عسكري كبير وقد لا تميل لاستنزاف هذه المقدرات بمواجهة عسكرية شاملة قد يطول أمدها.
يبقى السؤال الآن هل المنظومة السياسية لكل طرف تبحث عن حرب خارجية تعيد لها التماسك الداخلي؟ وكيف لها ذلك مع اقتصاديات لا تسمح بهكذا مواجهة ولو كانت مواجهة محدودة، وما هو انعكاس ذلك على استقرار الأمن الداخلي في البلدين؟ وكل طرف قادر اليوم على دعم جماعات داخل عمق الآخر (إثيوبيا قد تشعل السودان والسودان قادر على إشعال إثيوبيا).
المؤكد أن التعويل الأهم في هذه اللحظات الحرجة للبلدين الجارين هو على الأدوار الإقليمية في أي اتجاه ستدفع التهدئة والتسوية أم التصعيد لتحقيق (مصالح أبعد).
ويبقى هذا الصراع اليوم صراعاً قد يقود لحرب لا يمكن تجنبها إلا بالاستعداد لها جيداً من باب توازن القوى والذي قد يقود تكافؤها على الأرض لتسوية مرضية تحقق لكل طرف أهدافه الداخلية دون إراقة مزيد من الدماء.