تضافر الجهود الدولية في الاستجابة لجائحة كوفيد-19
قبل عقدين من الزمن، أنشأنا مؤسسة تقودها رؤية واضحة من خلال تركيز جهودها على تعزيز الصحّة العالمية، انطلاقاً من رغبتنا بتوظيف موارد شركة مايكروسوفت في تحسين جودة حياة أكبر عدد ممكن من الأفراد. الصحّة هي العمود الفقري لازدهار المجتمعات ونهضتها، ولم يدرك قادة الدول والحكومات هذه الحقيقة التي كانت واضحة وضوح الشمس سوى العام الماضي، عندما تفشّت جائحة كوفيد-19 وقلبت موازين الحياة هنا في منطقة الشرق الأوسط وفي جميع أنحاء العالم.
ولطالما كان يساور مؤسستنا القلق منذ زمن طويل بشأن إمكانية تفشي وباء عالمي، خاصة بعد وباء إيبولا في غرب إفريقيا، إلا أننا صُدمنا حيال مدى التعطيل الذي تسببت به جائحة كوفيد-19 للاقتصاد العالمي وعجلة التوظيف والتعليم والرفاهية في مختلف أنحاء العالم. ورغم هذه العوامل الاستثنائية، غير أن منطقة الشرق الأوسط كانت أفضل حالاً مقارنةً بمناطق أخرى عديدة في العالم من حيث حالات الإصابة والوفيات، كما كانت في طليعة حملات توزيع اللقاحات المضادة للفيروس. ولكنها بالطبع لم تكن بمنأى عن تداعيات الجائحة الاقتصادية، خاصةً أن دولها تعتمد على عدد من القطاعات الأكثر تضرراً، مثل السياحة والطاقة.

لقد كان العام 2020 سنة لن تنساها البشرية جمعاء بعدما تعرضت لتهديد عالمي طال كل شخص تقريباً على وجه الكوكب، إلا أننا نأمل أن يكون 2021 محطةً فارقة لتعميم الاستفادة من جهود مكافحة الجائحة بشكل عادل وفعّال. وإذا كان هناك سبب يدعو إلى التفاؤل، فهو أن العالم شهد خلال 2020 أضخم نموذج للتعاون الدولي في مجال الصحّة العامة في تاريخ البشرية، بمشاركة كل من صنّاع القرار والباحثين وأبطال خط الدفاع الأول من كوادر الرعاية الصحية وقادة الأعمال والمؤسسات التنظيمية والمجتمعات الدينية والعديد من الأطراف الدولية الأخرى، حيث تعاونوا معاً ضمن مسارات جديدة وغير معهودة.
هذا النوع من التعاون والجهود المشتركة عامل في غاية الأهمية، ففي أي أزمة عالمية مثل هذه الجائحة لا نرغب أن تقوم الشركات باتخاذ قرارات بغية تحقيق الأرباح أو أن تقوم الحكومات بتبنّي رؤى ضيقة الأفق تقتصر على حماية مواطنيها فقط، بل نحن بحاجة إلى مشاركة مختلف الأطراف والمصالح في مسار واحد يصب في مصلحة الإنسانية جمعاء.

لعل هذا ما يبرز أهمية الجهود الخيرية ومبادرات الإحسان في تمهيد الطريق أمام تحقيق هذا النوع من التعاون، ولأن مؤسستنا تعمل على معالجة ودحض الأمراض المعدية منذ عقود، فقد أسست علاقات متينة طويلة الأجل مع منظمة الصحّة العالمية والخبراء والحكومات ومؤسسات القطاع الخاص، إلى جانب مبادراتها الفعّالة في معالجة التحديات التي تفرض قبضتها على أفقر المجتمعات في جميع أنحاء العالم، ما يعني أننا ندرك أهمية تمكين جميع المشاركين في مكافحة هذه الجائحة كي تترسّخ لديهم قناعة راسخة بضرورة توفير الاحتياجات الضرورية في الدول منخفضة الدخل كذلك.
وقد استثمرت مؤسسة بيل ومليندا غيتس، إلى يومنا هذا، نحو 1.75 مليار دولار في مكافحة فيروس كوفيد-19، حيث تم توجيه أغلب هذا التمويل لإنتاج وشراء اللوازم الطبية الحيوية. فعلى سبيل المثال، كرّسنا دعماً للباحثين بهدف إيجاد وتطوير علاجات جديدة للفيروس، كما تعاونّا مع الشركاء لضمان تصنيع وتسهيل نقل هذه العقاقير لاستخدامها في أفقر المناطق في العالم بحيث تستفيد منها المجتمعات في كل مكان. كما حرصنا على دعم الجهود والمساعي المبذولة في إيجاد وتوزيع لقاحات آمنة وفعّالة ضد الفيروس.

ولا شك أن توفّر لقاحات ضد فيروس كوفيد-19 بالفعل حالياً لهو في حقيقة الأمر شاهد رائع على قوّة تضافر الجهود الدولية، إذ لم يكن بوسع أي دولة أو شركة أن تقطع هذا الشوط الكبير وتحقق هذه الغاية بمفردها، والفضل يرجع إلى جهات التمويل بمختلف أشكالها من جميع أنحاء العالم التي واظبت على جمع الأموال، وكذلك الأطراف المتنافسة التي تبادلت نتائج أبحاثها، كما استفاد كافة المشاركين من التقدم المُحرز على مدى سنوات عديدة بفضل الاستثمار العالمي في حلول التكنولوجيا التي ساهمت في استشراف آفاق حقبة جديدة في مجال تطوير اللقاحات. وعلى سبيل المثال، قدّمت المملكة العربية السعودية مساهمات بقيمة 500 مليون دولار لتمويل الجهود الصحية العالمية في العام 2020، حيث تم تخصيص 300 مليون دولار منها لتطوير اللقاحات وتوزيعها. كما اغتنمت المملكة فرصة رئاستها لمجموعة العشرين خلال العام الماضي لحشد التأييد والدعم من قادة العالم.

وبالطبع، فإن تطوير لقاحات آمنة وفعّالة ما هو إلا بداية لمسيرة طويلة بانتظارنا، فنحن بحاجة إلى توزيعها بشكل منصف كي يتمكن كل فرد بحاجة إلى جرعات التطعيم في جميع أنحاء العالم من الحصول عليها، حيثما يتواجدون. وتحقيقاً لهذه الغاية النبيلة، لا بد لنا من الاعتماد على مؤسسات ومنظمات مثل منظّمة "التحالف العالمي للقاحات والتحصين" (جافي) لتوزيع اللقاحات، خاصةً أن هذه المنظّمة المرموقة نجحت خلال العشرين عاماً الماضية في تسليم لقاحات لما يقرب من 822 مليون طفل في الدول منخفضة الدخل، وها هي تواصل دورها ضمن الجهود العالمية المبذولة لتوزيع لقاحات كوفيد-19.
هذه الجائحة ستنتهي يوماً ما، على الرغم من صعوبة تصوّر ذلك خلال الواقع الحالي بالتزامن مع إصابة الكثيرين بكوفيد-19. هذه النهاية ستتحقق بفضل تعاون الأفراد والمؤسسات من كافة أنحاء العالم للخروج من هذه الأزمة، فبروحهم الجسورة والتزامهم عبر كافة المجالات سنتجاوز هذه الأزمة وسنكون مدينين لهم جميعاً لنحقق التعافي وفقاً لنهج يسهم في عالم أقوى وأفضل استعداداً للتحدي التالي.