ماذا يجري في روسيا؟
لم تكد الجلبة التي رافقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية تهدأ قليلا، إلا وانتشرت نيران الفورات في روسيا، من جراء أزمة المعارض الروسي اليكسي نافالني، وما بين ما جرى في الداخل الأمريكي نهار السادس من يناير الماضي، وما حدث الأيام الفائتة في عدد من المدن الروسية، يتساءل المرء: "هل من علاقة ما، أو رابط يربط واشنطن وموسكو، في أزمنة الفورات والثورات، رابط يتجاوز ما تراه العين المجردة، إلى التدابير الماورائية، ضمن سياقات التصادم الاستراتيجية، لا سيما بين الأقطاب الدولية؟
لا يمكن قراءة حاضر العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بعين اللحظة المعاصرة فقط، إذ يتحتم على أي باحث ينشد فهم مفردات الواقع الآني، الرجوع إلى الماضي، وتحديدا إلى ثلاثة عقود خلت.
السردية وباختصار غير مخل، تخبرنا أن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، استطاع أن يفكك الاتحاد السوفيتي، ويقوض أركانه، ويفرق جمهورياته السابقة، ولا نغالي إن قلنا إن الغرب أذل موسكو ، الأمر الذي أيقن جنرالات العالم أنه لن يمضي من غير حساب روسي، عند نقطة معينة من الزمن ولو في المستقبل البعيد.
اعتبر القيصر بوتين أن ما جرى لبلاده كان الخطيئة التي لا تغتفر في تاريخ القرن العشرين، وليس سرا، أن الروس بصورة أو بأخرى أضمروا نوايا الثأر الدفين، ويبدو أنهم ومنذ العام 2010 ، أي بعد أن استردوا بعضا من عافيتهم بشكل واضح، قد مضوا في طريق الانتقام غير المباشر من الأمريكيين تحديدا، وهناك أدلة عديدة على أن الروس قد تلاعبوا بالنسيج المجتمعي الأمريكي، وقد قدر لهم أن يحدثوا لغطا متعمدا كبيرا في انتخابات الرئاسة الامريكية 2016، وسواء كانوا على حق أو باطل، فقد نجحوا في أن يغربلوا مشاعر الأمريكيين، ويقيموا فسطاطين، واحد ضد الآخر، فالبعض يعتقد أن ترامب هو حليف الروس، والفريق الآخر يظن أنها أضغاث أحلام ،وما بينهما بدت الولايات المتحدة الأمريكية عرضة للانشقاق، وتملكتها إرهاصات غير مطمئنة في الحال، ومدعاة للقلق العميق في الاستقبال، وفي المشهدين ظل السؤال عينه: "هل من يريد بنا الشر والانتقام ؟
قبل أيام من تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد، جوزيف بايدن ، كانت موسكو وعدد من المدن الروسية تشتعل من جراء أزمة المعارض الروسي الذي أضحى شهيرا ، أليكسي نافالني، والذي تعرض إلى محاولة الاغتيال بالسم في أوروبا، فيما أنقذته المانيا، وقد كان من الطبيعي أن يطلب الرجل حق اللجوء السياسي في أوروبا، إلا أن الغريب والعجيب في نظر الكثيرين، هو عودته إلى بلاده، وهناك يتم اعتقاله، ومن ثم خرجت الجماهير المطالبة بحريته، والاعتراض على سجنه، ليتحول بين عشية وضحاها إلى أيقونة للمعارضة الروسية.
نافالني، يعتبر الضد من بوتين بشكل خاص، والرجل هو من أشاع ملكية بوتين لقصر فخيم، ويرى أنه قائد حركة مناهضة الفساد الحكومي في روسيا، رغم أن أصوات روسية أخرى ترى أنه مجرد مغامر نرجسي موتور.
يتساءل البعض هل نحن أمام موجة جديدة من موجات الثورات الملونة ، تلك التي عرفتها جمهوريات سوفيتية عدة، وفي مقدمتها أوكرانيا في نهاية العقد الأول من القرن الحالي، وأوكرانيا اليوم تحلم بأن تنضم إلى حلف الناتو في زمن بايدن بنوع خاص، أم أن المشهد يشي بأن القصة بروفات أولية، وربما ردات فعل من أكثر من لاعب دولي ، وقد تكون رسائل مقصود بها ساكن الكرملين عينه، من إمبراطور البيت الأبيض الجديد، والذي يدرك فريقه أن بوتين قد عرف كيف يستغل أخطاء إدارتي أوباما، الرجل الذي فضل القيادة من خلف الكواليس، ما ترك مربعات نفوذ استراتيجية فارغة، في الكثير من البقاع والأصقاع حول العالم، ملأها الثعلب الروسي الرشيق، عطفا على سياسات غامضة طوال أربع سنوات دونالد ترامب ، والتي أحدثت شرخا كبيرا في العلاقات الأمريكية الروسية .
جملة اعتراضية في محاولة فهم ما يجري في روسيا هذه الأيام ، ترتبط بما أماطت عنه اللثام صحيفة الجارديان البريطانية الأيام القليلة الماضية، والخاص بشخص الرئيس الأمريكي السابق ترامب ، وكونه كما ادعت مصادر استخبارية روسية ، جاسوسا منذ أربعة عقود ، أي منذ زمن السوفيت ، يعمل لصالحهم في الأراضي الأمريكية ، وأنه تم اختياره بعدما اكتشف القائمون على تجنيده أنه يمثل هدفا مثاليا، لغروره ونرجسيته وحبه للإطراء.
والشاهد أنه لا يمكننا التصديق أو التكذيب مرة واحدة وبسهولة ، لاسيما وأن كل ما لدينا هي ادعاءات الجاسوس السوفيتي السابق، "يوري شفيتس"، الذي أرسله الاتحاد السوفيتي إلى واشنطن في ثمانينات القرن الماضي، إلا أن مجرد نشر القصة ، حكما سوف يفتح أبواب تساؤلات كارثية في الداخل الأمريكي، وأولها: "هل كان ترامب المكافئ الموضوعي لميخائيل غورباتشوف، الرجل الذي ترددت أيضا من حوله علامات الاستفهام حول تجنيد الغرب له، ليقوم بالقضاء على الإمبراطورية السوفيتية من خلال فكرتين، الجلاسنوست والبريسترويكا؟
يتساءل روس كثيرون اليوم بعد مظاهرات 23 يناير في البلاد، هل تنجح الأيادي الغربية، ولا سيما الأمريكية في تكرار ثورات 2008 ، وبخاصة بعد أن صدرت تصريحات عدة من الخارجية الأمريكية ،ومن دوائر معينة في الغرب، تستنكر العنف من قبل الشرطة الروسية ، تجاه التظاهرات غير المرخص لها في أنحاء البلاد ، الأمر الذي اعتبرته الخارجية الروسية تدخلا فجا وفظا في شؤون دول مستقلة؟
يكتب المحلل السياسي الروسي، "الكسندر نازاروف"، مؤخرا ما يفيد بأن هناك من يؤمن إيمانا مطلقا بأن الأمريكيين هم من صدروا نافالني للداخل الروسي، والبعض شبه عودته إلى موسكو بعودة الخوميني إلى طهران عام 1979، وأصحاب هذا الرأي يرون أن المشهد مقصود لتحويل أعين الأمريكيين إلى الخارج، وإعادة تكريس الصورة النمطية للعدو الروسي التقليدي.
لا تبدو الحقيقة واضحة، فالضباب يخيم على العلاقات الأمريكية الروسية، والاتصال الهاتفي الأخير بين بايدن وبوتين كان براجماتي بحسب المتحدث باسم الرئاسة الروسية "ديمتري بيسكوف"، ما يعني أن الصراع من واشنطن إلى موسكو ، سوف يظل محتدما ومحتقنا، بل ومفتوح على كافة السيناريوهات في قادم الأيام.