دروس من حادثة المعادي
إنه أمر يدعو بالفعل إلى الابتهاج؛ إذ ستجد عدداً من مستخدمى وسائط «السوشيال ميديا» يتداولون بكثافة نصاً منسوباً إلى رواية «نيكوس كازنتزاكس» الشهيرة «زوربا اليونانى»، التى صدرت فى أربعينات القرن الماضى، وفى هذا النص يقول أحدهم لـ«زوربا»: «لا أراك تصلى يا زوربا»، فيرد هذا الأخير: «الذى يصلى لن تراه».
لقد أراد «كازنتزاكس» من خلال هذا الحوار المكثف البديع أن يخبرنا بأن الصلاة عمل روحى بين الإنسان وربه، وأنها يمكن أن تحدث وتصح وتبلغ أقصى مراتب الشفافية من دون أن يطلع عليها أحد.
لكن الغريب والصادم فى الوقت ذاته يظهر عندما يقرن بعض هؤلاء النشطاء تلك العبارة بصور لهم وهم يؤدون فروضاً دينية، أو عندما تعكس صفحاتهم الشخصية على تلك الوسائط، ورسائلهم المتداولة باطراد مع قوائم المتصلين بهم، ميلاً واضحاً إلى إظهار التدين والتباهى بأداء شعائر دينية.
يشير ذلك إلى ازدواجية وتذبذب؛ إذ كيف تفهم رسالة «كازنتزاكس» التى تحض على احترام الشعائر الدينية وتقديس فعل الصلاة، وبين فعل العكس تماماً عبر تكريس صورة «المتدين الورع»، من خلال عرض الذات فى مشهد العابد المثابر على تكاليف العبادة؟
يأخذنا ذلك إلى موضوع قديم يتجدد بانتظام؛ وهو الموضوع الذى يتجسد فى تراجع أخلاقى يرصده المجتمع ويعانى آثاره من جانب، فى مقابل زيادة حادة فى عرض صور وأقوال وآراء لتأدية شعائر دينية أو تداول نصوص مقدسة من جانب آخر.
تلك إذاً معضلة التدين الشكلى الذى يزدهر قولاً وصوراً ولا يتجسد عملاً ولا ينعكس فى الأخلاق والمعاملات.
فى الأسبوع الماضى، عادت تلك الإشكالية لتُطرح من جديد على المجال العام، بعدما توصل نشطاء إلى أن الحسابات الشخصية للمتهم فى واقعة التحرش بطفلة المعادى حافلة بصور له وهو يؤدى شعائر دينية، وكأنه أراد أن يقدم نفسه باعتباره «مؤمناً ورعاً»، وهو الأمر الذى ظهر عكسه عندما فضحت الكاميرات تورطه فى تلك الجريمة المشينة.
إن حادثة التحرش الجنسى بطفلة المعادى حادثة مفجعة بكل تأكيد، لكنها أيضاً كاشفة؛ ومن أهم سماتها كذلك أن غرابتها وحساسية الجرم المرتكب عبرها عززت قدرتنا على استخلاص عدد من الدروس والعبر المهمة منها.
تُعد قضية التدين الشكلى والحرص الظاهر على ادعاء التقوى والورع من دون القدرة على تمثل المبادئ الدينية والروحية لتنعكس فى السلوك والمعاملات إحدى أهم القضايا التى فجرتها تلك الحادثة وجددت الاهتمام بها.
فقد أدرك قطاع كبير من المتابعين لهذه الحادثة المشينة أن التدين لا يحتاج إلى دعاية، وأن بعض المتوسلين بمظهر الورع ربما يفعلون ذلك للتغطية على نواقص، وأنه لا يجوز الحكم على إيمان أو أخلاق أحدهم من خلال ما ينشره من صور على «فيس بوك» أو ما يرسله لأصدقائه على «واتس آب».
من بين الدروس المهمة التى يمكن استخلاصها أيضاً من تلك الواقعة ما يتصل بضرورة استكمال الخطوات التى اتخذتها الدولة من أجل نشر كاميرات المراقبة لتغطى أكبر قدر من الحيز العام فى البلاد، طالما أن ذلك يتم وفق اشتراطات القانون، وضمن مراعاة الخصوصية، وطالما يثبت الفاعلية فى كشف الكثير من الجرائم والتجاوزات.
أما الدرس الثالث فيتعلق بمسألة أطفال الشوارع، الذين ألقت تلك الحادثة الضوء مجدداً على قابليتهم الكبيرة للاستهداف بعديد الجرائم، وعلى رأسها بالضرورة جرائم الاستغلال الجنسى.
ويمكننا استخلاص الدرس الرابع من الطريقة التى تعاطت بها السيدة التى كشفت هذه الجريمة ومنعت إتمامها؛ وهى طريقة تعكس سوية مستقيمة وشجاعة، يجب علينا أن نجتهد لإعلائها، وأن نفند بعض الانتقادات غير المسئولة التى استهدفتها بداعى «منع الشوشرة» أو «الرغبة فى الستر».
ويتعلق الدرس الخامس بالمعالجة الإعلامية لتلك الحادثة؛ ومن ذلك أن قطاعاً كبيراً من مستخدمى وسائط «السوشيال ميديا» أظهروا مواقف خاطئة وخطيرة فى مقاربة الحدث؛ إذ هاجم البعض السيدة التى كشفت الحادثة، واتهم البعض الطفلة المغدورة بأنها «معتادة على هذا الفعل»، وهو أمر يشير إلى علة خطيرة فى النقاش الدائر عبر هذه الوسائط.
ولم يقتصر الإشكال على المعالجات التى وردت عبر «السوشيال ميديا» فقط، لكنه امتد ليشمل المعالجات فى وسائل الإعلام التقليدية أيضاً، وقد ظهر تخبط بين بعض الصحفيين والإعلاميين العاملين فى تلك الوسائل عند نشر أخبار الحادثة.
من بين الأسئلة التى ثارت وفجّرت الجدل فى هذا الصدد ما يتصل بنشر صورة واضحة للمتهم، والخلاف على تسميته بـ«المتهم» أم «المتحرش»، ونشر اسمه وجهة عمله، ونشر أسماء طفليه، ونشر صورة واضحة للطفلة المجنى عليها، أو نشر الفيديو الذى يوضح الانتهاك كاملاً.
والشاهد أن القواعد الأخلاقية التى يجب أن تُراعى فى وسائل الإعلام تنص على ضرورة أن يتم نشر صورة المتهم بعد إخفاء عينيه، ونشر الحروف الأولى من اسمه فقط، وإبقاء أسرته كلها بعيدة عن التغطية، وعدم نشر صورة واضحة للطفلة المجنى عليها أو إعلان اسمها، ومعالجة المشهد الذى يجسد الاعتداء بحيث لا ينتهك كرامتها. هذه هى القواعد التى يجب الالتزام بها، ولا يُسوغ إهدار «السوشيال ميديا» لها التخلى عنها فى وسائل الإعلام التقليدية.
نقلا عن "الوطن"