في ملهاة السياسة.. وعلاجها

عبدالله بشارة
نشر في: آخر تحديث:
وضع القراءة
100% حجم الخط

تحولت أزمة السياسة في الكويت إلى سلة فيها مختلف أنواع التسليات وأشكال الفكاهة للذين يتابعون تطوراتها باهتمام، ويستفسرون عن آخر التجليات في إبداعات الحالة التي تسيدت الكويت منذ ديسمبر الماضي، وأفرزت فراغاً في مسار الدولة، وشلت الكثير من جوانبها، لاسيما في الموضوعات التي تتصدر جدول أعمال البرلمان، وهي تشكيلة من القضايا لها علاقة مباشرة بشؤون المواطن، وعامل حيوي في الحركة التجارية وفي التوجهات الاقتصادية وفي أبعادها السياسية والحياتية.

وأسجل هنا بعض الانطباعات، وربما بعض التوجهات العامة التي قد تسهم في تجاوز المطب، الذي أدخل المجتمع الكويتي في ما لم يتوقعه ويعطّل آماله ويضعف الأعمدة التي تقوم عليها الشراكة الائتلافية في إدارة شؤون الدولة، بين البرلمان والشرعية التاريخية.

مادة اعلانية

أولاً: لا يستسيغ المجتمع الكويتي تلك المفردات التي يوجهها النواب الغاضبون ضد الوزراء، وخاصة ما يمس اللوحة الإنسانية الخيرة التي يحملها رئيس الوزراء، فلا يجوز أن تتأثر المعارضة بالاندفاع في غضبها إلى رمي صخور الاستخفاف والتصغير على من يتولى شؤون العمل اليومي للسلطة التنفيذية ويتزين بلقب سمو، وقد سمعت ما أزعج الكثيرين من أبناء الوطن في خروج قبيح على الالتزام بالتقاليد الكويتية الرصينة في الحفاظ على كرامة الأشخاص وعدم المس بالهيئات التي نحرص على احترام مقامها.

مرت الكويت بالكثير من الأعاصير السياسية، ولم يتفرعن أحد في تحديه للمألوف، ويخرج من وقار المفردات التي اعتاد عليها الوطن، فالكويت وبرلمانها ومكانتها تكبر مع الوقار، وتتأذى من التعالي ومن التحقير، ونذكر بأن أبرز مسؤوليات المجتمع أن يعبّر عن رفضه لهذا الشطط غير المقبول، خاصة من نواب كانوا يتغنون بأهمية الحياة البرلمانية التي يريدون ازدهارها في مسار المستقبل.

ثانياً: استمرت الأزمة محصورة داخل مبنى البرلمان تمثل في حضور نيابي محدود وغياب الحكومة مع تأجيل متواصل، وتسيدت الحالة - السيناريو المعروف والمكرر - وبلا هدف سوى نقل إحباطات النواب وتذمرهم إلى المجتمع على أمل وقوع مفاجآت شعبية قد تسعد هؤلاء النواب، لكن الواقع أن المعارضة لم تتمكن من رصد التوجهات اليومية لأبناء الوطن، ولم تقرأ جيداً أن الأولويات للمواطنين ليست في من يدير جلسات المجلس، ولا في من سيأتي مكانه، وإنما في تحقيق تطور تنموي اقتصادي واجتماعي، وإغلاق أبواب الفساد ومحاسبة الذين تضخمت حساباتهم وانتفخت ضلوعهم من عوائد الفساد، مع فرض القانون وترسيخه داخل سلوك السلطة وفي مسلك النواب، باحترام القانون والالتزام به، ورفع مكانته في الضمير الجماعي للدولة، وتأكيد الالتزام البرلماني بمبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين، مع الاستذكار بأن المجتمع يحمل نفوراً من نواب الخدمات الحريصين على الحفاظ على استمرار العضوية.

ثالثاً: فشل المعارضة في عرض برنامج عمل مستقبلي يتكيف مع آمال المواطن، ويراعي واقعه الاقتصادي والاجتماعي، ويرسم له خريطة مستقبلية تضمن له وللأجيال القادمة استمرار الأمن المعيشي والاجتماعي، وتوضح له أن مؤشرات الغد أفضل من الحاضر، وأن سماء الكويت تحمل تباشير النهضة التي يحلم بها كل مواطن.

كما يلاحظ الرأي العام دوام الاضطراب في برنامج المعارضة، التي اتسعت من الاعتراضات على رئيس المجلس إلى الاعتراض على رئيس الوزراء ورميه بما لا يليق من الكلمات، هذه التصعيدات في المطالب من دون شك أدت إلى ولادة الشعور بعدم الجدية في بيانات المعارضة، ولا في الأولويات التي تحملها ملفاتها، لأنها تتبدل باستمرار وتتضخم بلا نجاح، فأحياناً إبعاد الرئاسة، وأحياناً حل المجلس لتحقيق الأهداف، ومعظم الأحيان عن العفو العام، وتنتهي جميعاً بالتأجيل.

رابعاً: من حق كل مواطن أن يبدي رأياً في موضوع العفو العام، الذي زادت تعقيداته بسبب كثرة المتطوعين وتباين خلفياتهم، فتقاليد الكويت التي سجلها التاريخ سخية في تسامحها وفي حرصها على سلامة أبنائها، وقادرة على الترفع عن الإشكاليات في الألفاظ وفي المبارزات الكلامية، مع التأكيد بأن السنوات العجاف التي عاشها بعض الذين اختاروا الابتعاد تعلموا الكثير من دورات الزمن، فالحياة لا تطيق الجمود، ومن يتقوقع داخل دائرة ضيقة قد تضيع منه فرص الابتسامات التي لا تدوم كثيراً.

أعرف شخصياً السيد مسلم البراك الذي استأنس السياسة، وعشق ألعابها، وسطع في جدلها، فهو يحمل غيرة المواطن ويتشوق للوصول إلى رضا الناس، ولديه ثقة في قدرته على التغيير والتبديل، تعثّر وصوله إلى أهدافه وتوقفت جهوده مع غيابه الجغرافي، المهم انني من الذين يرون أن الكويت قادرة على ضخ صيغة تمكّن مسلم البراك وفريقه من العودة إلى ديارهم، ففي المشهد الانساني لم تستبعد الكويت عبر تاريخها أي مواطن يسعى إلى العودة.

خامساً: لم تنجح المعارضة في زرع قاعدة شعبية تستند عليها في تبني برامجها الانتخابية، فلم تطرح خطة فيها تفاصيل وفق الأولويات التي يطمح لها المواطن، ويعود ذلك الإخفاق إلى تنوع مشاربها واختلاف اجتهاداتها، فلم تبرز كفريق واحد مترابط في مطالبه، فالمبادرات تخرج مفاجئة للآخرين، من دون ترتيب مسبق يمهد لتحقيق انسياب في المواقف، فنقرأ عن استجواب رئيس الوزراء مقدم من عضو واحد، لا تحضير له مع الآخرين، كما نقرأ عن أسماء وسطاء من النواب يتجهون إلى تركيا حاملين اجتهادات، كل ذلك لا يضيف الكثير إلى بنيان المعارضة التي يجمعها بند واحد تمثل في خصومتها مع رئيس المجلس، وغير ذلك صار ملفها مفتوحاً لكل من يبادر متحملاً مسؤوليته، من دون التزام من الآخرين، والحصيلة أن مقعد الرئاسة هو العنصر الجامع للمعارضة التي لن تتطور لتشييد أرضية تجمع أغلبية برلمانية تحقق لها النجاح.

أبومازن.. ممر التاريخ الضيق

أكتب عن هذا الموضوع مدفوعاً بشعور بأن السيد أبومازن، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، يقف الآن أمام ممر التاريخ الضيق، فأي تردد قد يكون نهاية الأمل.. جاءت الفرصة الصعبة بثمن غال دفعه الشعب الفلسطيني، تمثلت في موجات تضحية من صغار وكبار وشباب باندفاع وطني أحدث اختراقاً في الجدار الذي بناه الرئيس الأميركي السابق في مسعاه لنزع الأمل من الشعب الفلسطيني، وتقترب الولايات المتحدة للمشاركة في مفاوضات مباشرة لا بديل عنها لتحقيق أماني الشعب في دولة يحمل هويتها وينتقل بوثائقها، ويخرج من ظلم التاريخ إلى آفاق واعدة، ويعرف أبومازن أن حتمية الوصول إلى دولة يستدعي التخلي عن طروحات لا أمل منها، فلا الرباعية ولا سقف الطموحات العالي، والخيار أمامه الآن، بين دولة مهما كان صغرها لها موقع وشرعية وشعب ورعاية عربية ودولية، وهنا دور مصر والأردن، فمشاركتهما لمسار المفاوضات جوهرية للنجاح، واستحضارهما كرافعة وكراعٍ، كما يعي أبومازن بأن حماس لا قبول عالمياً لها في عيشها على الأحلام، كما يعرف بأن تجارب الماضي أضاعت الفرص التي لن تعود.

تحولات الزمن لا يمكن إيقافها، وإنما شروط تحقيق النجاح فيها، هي توظيف الحكمة والاستجابة لنداءاتها، تجاوزاً للخوف وتخلصاً من التردد الذي كان دائماً خصماً لآمال الفلسطينيين في الانتقال إلى دولة عضو في تجمعات الأسرة العالمية، ندرك حساسية القرار وثقل المهمة، لكن الأمل أن يدخل أبومازن قائمة الكبار صناع التاريخ في صحبة العبقريات والبطولات.

الخلاصة أن الرئيس محمود عباس يقف على حافة سكاكين التاريخ، أمامه استمرار الهيام بالأحلام، أو طريق الدولة الفلسطينية الحاضنة، التي تتحقق عندما يتجاهل أبومازن الخوف من المجهول، ويعبر فضاء التردد.

* نقلا عن " القبس"

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
انضم إلى المحادثة
الأكثر قراءة مواضيع شائعة
  • وضع القراءة
    100% حجم الخط