ومضات الأمل المؤنث في تونس
كلما نظر التونسي لوجه السماء هذه الأيام إلا وتراءى له أن السحب الداكنة تتراكم بما يحجب عنه الرؤية ويفقده الأمل.
ولكن ومضات من الضوء من حين لآخر تزيح بعض الظلمة من أمام عينيه وتعيد إليه القدرة على الحلم.
من أكبر مبررات الحلم الصامدة بثبات أمام الإحباط بالنسبة إلى معظم التونسيين والتونسيات التطلع لمستقبل أبنائهم وبناتهم المجتهدين والمجتهدات رغم الجائحة.
في أوج الخوف من انتشار كورونا كنت تشاهد الأمهات والآباء مصطفين خارج المدارس والمعاهد ينتظرون خروج أولادهم وبناتهم بعد إجراء الامتحانات في المدارس الابتدائية والثانوية.
كنت ترى الآباء والأمهات ينبرون في تصفيق حار لا يتوقف حال خروج التلاميذ والتلميذات من قاعات الامتحان إلى الشارع.
كنت تحس كيف أن أمواج الفرح تزيح كل الهواجس الأخرى عند صدور نتائج الثانوية العامة وتوزيعها بواسطة الإرساليات القصيرة التي يتلقاها التلاميذ والتلميذات في يوم ساده الفرح وتبادل التهاني بشكل لا علاقة له بالقتامة الطاغية على الشارع.
هذا العام كانت البهجة مفردا مؤنثا بامتياز.
مثلما كان متوقعا، كرست النتائج تفوق البنات في الدراسة، إذ هن شكلن 67 في المئة من مجمل الناجحين. وكنّ في طليعة الحاصلين على أفضل المعدلات.
وحتى عندما صرحت العديد من المتفوقات بأنهن يرغبن في مواصلة دراساتهن العليا خارج البلاد لم يصدم أحد. كان هناك إقرار بأن البلاد بأوضاعها المتأزمة قد ضاقت بكفاءاتها من الجنسين من حيث ظروف تحصيل العلم والحياة وآفاق التشغيل لاحقا. كان هناك وعي جماعي بأن أي اعتراض على رغبة الناجحات في البحث عن الأفضل خارج الحدود هو بمثابة العقاب لبناتهم المتفوقات.
صفق التونسيون لمرام المرزوقي وندى الشارني وبقية الفتيات المتفوقات خاصة منهن التلميذات أصيلات ولايات (محافظات) الشمال الغربي، وهي محافظات تعتبر من الأقل حظا في التنمية.
صحيح أن نتائج الامتحانات أظهرت أن الولايات (المحافظات) المتأخرة على صعيد مؤشرات التنمية البشرية مازالت تعاني تأخيرا على مستوى معدلات النجاح في الامتحانات المدرسية، ولكن النتائج أظهرت أيضا أن ذلك ليس عائقا أمام التميز لمن تعلقت همته بالتفوق سواء كان تلميذا أو تلميذة في أي منطقة من مناطق البلاد. ورغم كل هناتها وإخفاقاتها لا تزال المنظومة التعليمية تشكل أفضل مصعد اجتماعي قادر على تحقيق طموحات الأجيال الصاعدة مهما كانت التحديات.
منذ سنوات عديدة أظهر التعليم أنه مصعد اجتماعي مؤنث بامتياز. إذ ما انفكت نسب التسجيل والنجاح في الامتحانات المدرسية والجامعية تبرز تفوق الإناث سواء في تونس أو في الكثير من الدول العربية الأخرى.
بفضل تشريعاتها التقدمية والتفاعل الإيجابي مع حقوق المرأة منذ الاستقلال، رغم كل محاولات النكوص من حين لآخر، ليس هناك في تونس هوة عميقة تفصل بين مكانة المرأة في التعليم ودورها في المجتمع. ولذا فإن تحسن مؤشرات المساواة التعليمية بين الجنسين لا يلاقي صدا من قبل معظم شرائح المجتمع بل بالعكس.
وقد عكس الترحيب الواسع بتألق التلميذات في امتحانات الثانوية العامة أملا راسخا لدى الكثيرين في تونس بأن المرأة، بجديتها وقوة عزيمتها ووضوح الرؤية لديها، قادمة على عجل. هناك ما يشبه الحدس بأنها قادمة لتنقذ تونس من أزماتها والأخطاء المتراكمة لنخبها.
لسبب ما قد تكون تتميز به تونس، هناك مسحة من التفاؤل تتولد دوما عن نجاحات المرأة. نفس التفاؤل الذي أفرزته الوجوه الشابة للناجحات في الامتحانات وتصريحاتهن الواثقة بالنفس تركته أنس جابر الرياضية التونسية المتألقة التي أضحت تشكل قدوة في القدرة على الإنجاز والعطاء.
تفرج التونسيون، بمن فيهم من لم يشاهد مباراة لكرة المضرب من قبل، في أنس، لاعبة التنس التونسية. واستبشروا خيرا بأدائها وابتسامتها الدائمة خلال المباريات. ودغدغ مشاعر افتخارهم كونها أصبحت أول لاعبة تنس عربية تفوز بإحدى أكبر الدورات العالمية الكبرى في اللعبة.
أظهرت أنس دوما وعيا بدورها كقدوة للمرأة التونسية والعربية. وقد أعربت عن أملها في أن يشجع نجاحها على المستوى العالمي الكثيرات من تونس والمنطقة العربية كي يلتحقن بها في مضارب التنس.
تحدثت عن الرسالة التي توجهها للأجيال القادمة من الشابات في المنطقة مؤكدة “كل ما أريد قوله، إنني إذ بلغت أنا مبتغاي، فلا شيء مستحيلا”.
أنس لا تخوض مباشرة في السياسة، ولكنها أهدت فوزها الرياضي العديد من المرات للزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، الذي كان يفتخر في حياته بأنه “محرر المرأة”، وأصبح اليوم رمزا لنضال المرأة التونسية للدفاع عن حقوقها أمام قوى الجذب إلى الوراء.
رغم كل التقدم الحاصل، مازالت المرأة التونسية تعاني الكثير من العقبات في الوصول للمناصب العليا والمساواة الاقتصادية الفعلية، بالمقارنة مع الرجل، كما هي تواجه ظواهر العنف والتزمت وسائر الرواسب الثقافية المتكلسة دون مساندة كافية.
ولكن المرأة بقيادتها الشجاعة للجيش الأبيض واستعدادها للتضحية بالنفس على جبهة الحرب على كورونا، باعتبارها تشكل أغلبية الطواقم الطبية، أظهرت كفاءة واقتدارا كفيلين بإفحام من كان له أدنى شك في جدارتها بحقوقها كاملة.
بالإضافة إلى ذلك، تقدم اليوم الطبيبات والممرضات المرابطات على الخط الأول للمعركة من أجل الصحة والحياة، مع كل الناجحات التونسيات في الميادين الأخرى، سببا وجيها للمجتمع التونسي في أصعب أيامه من أجل التفاؤل، حتى وإن بذل السياسيون كل جهدهم لدفعه نحو عكس ذلك.
*نقلاً عن "العرب"