عسل الشهرة وجنة الأخبار
لقد طالعنا فى الأخبار الفنية التى تم نشرها على نطاق واسع، خلال الأسبوع الماضى، أن فيلم «ريش» للمخرج المصرى عمر الزهيرى فاز بالجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد الدولى، فى الدورة الرابعة والسبعين لمهرجان «كان» السينمائى، بفرنسا، بعدما لاقى الكثير من استحسان النقاد وإشاداتهم.
وكان من المفترض والضرورى بطبيعة الحال أن يحظى هذا الفيلم، وأبطاله، ومخرجه الشاب، الذى كان هذا هو عمله الروائى الطويل الأول، بالكثير من الاهتمام والتقدير، وأن تتم مناقشة هذا الإنجاز وتحرى أبعاده على وسائط الإعلام المختلفة سواء كانت جماهيرية أو «سوشيالية».
لكن ما حدث كان غير ذلك تماماً، إذ هيمن على الساحة الإعلامية والفنية فى المقابل خبر آخر، بدا أنه تحلى بكل السمات اللازمة لكى يكون جذاباً وآسراً لقطاعات من الجمهور وعدد كبير من وسائل الإعلام ومنصات «السوشيال ميديا» الرائجة.
كان هذا الخبر يتعلق بتصريحات وردت على لسان فنانة شابة متوسطة النجومية والتأثير، وقد عرفنا أنها تتأرجح كثيراً فى مواقفها حيال الفن، وأن قرارها الخاص بارتداء الحجاب أو خلعه، أو الاستمرار فى التمثيل أو هجره، بات صيغة متكررة فى شتى المنافذ الإعلامية.
لا أنوى مناقشة مواقف تلك الفنانة المتذبذبة حيال الفن فى تلك المساحة، ولا أعتزم نقد تأويلاتها ومواقفها المتأرجحة والصادمة فى آن، وسأكتفى فى هذا الصدد بالإشارة إلى رد نقابة الممثلين عليها، وهو الرد الذى انطوى على الحجج اللازمة لتفنيد ما أتت وتأتى به من حين إلى آخر.
وظنى أن هذا الموقف المتأرجح والملتبس لا يعكس حالة نفسية مأزومة أو حيرة فكرية لدى تلك الفنانة، كما أنه لا يعبر عن مصلحة طارئة، أو التزامات اجتماعية جديدة لها، كما ظن البعض، لكنه فى الأساس يعود إلى رغبتها العارمة فى البقاء فى الأخبار.
بالنسبة إلى هؤلاء الذين يذوقون حلاوة الشهرة، ويعانقون «المجد» الذى يحققه «الترافيك»، يصعب جداً أن يقبلوا بالانزواء والبقاء فى الظل، إلا إذا كانوا من قماشة ثرية ومعدن أصيل، ولديهم قدرة كبيرة على ضبط النفس، ومتصالحين مع الذات، ومتوازنين وجدانياً.
بغير تلك الشروط الصعبة، فإن هؤلاء المشهورين أو أنصاف المشهورين أو الباحثين عن الشهرة بأى ثمن، يمكن أن يفعلوا أى شىء لكى «يدخلوا الأخبار» من جديد، حتى لو كان ثمن تلك الشهرة دخولهم السجن، أو تشتتهم فى المنافى، أو فقدان الاعتبار، أو التنصل من خياراتهم السابقة وإدانتها، أو الحط من شأن زملاء لهم.
يفسر لنا هذا حالة الكثير ممن أطلق عليهن «فتيات التيك توك»، واللاتى أفرطن فى المقاربات الحادة والصادمة لكى يحافظن على وجودهن فى الأخبار ويتمتعن بعوائد «الترافيك».
ثمة من يذهب إلى السجن إذن طلباً للشهرة، وكثيرون لا يتورعون عن المغامرة بإطلاق تصريحات أو إصدار فتاوى أو بث تعليقات على «السوشيال ميديا» بهدف إثارة الضجة وجذب الاهتمام، وهم يعلمون يقيناً أنهم يقتربون جداً من الخطوط الحمراء، لكن «عسل الشهرة» و«جنة الأخبار» أهم لديهم من تكلفة «نقض الاعتبار».
سيذكرنا هذا بذلك الممثل الذى لا يكف عن التباهى بثروته الطائلة ونمط حياته الباذخ وإهانة الآخرين والتعالى عليهم باعتباره «النجم الأول والبطل الأوحد»، أو هذه الفنانة التى تتنقل بين ارتداء الملابس الفاضحة وبين الآراء الصادمة لكى تحصد المشاهدات.
أو تلك الراقصة التى لا تتورع عن فعل أى شىء، بدءاً من «الأفعال المحرضة على الفسق»، مروراً بـ«الكذب والافتراء» على الناس، ووصولاً إلى ابتذال المشاعر والقيم الدينية، لكى تبقى فى الضوء، ويتداول الجمهور صورها بملابسها الخليعة وإيحاءاتها الصادمة.
أو تلك المخرجة التى لا تتوقف عن الظهور فى البرامج بين حين وآخر لتصدم الجمهور برأى شاذ أو متجاوز، أو تروج لممارسات حادة وغير مقبولة مجتمعياً، وليس فى ذهنها سوى هدف واحد.. أن «تدخل الأخبار»، وأن تثير الضجة تلو الضجة، بحيث يجد المعدون دوماً سبباً لاستضافتها، وأن يجد بعض الكتاب ذرائع للكتابة عنها وذكر اسمها، طالما أنها توقفت عن القيام بعملها الأصلى، وتفرغت لشن الهجمات على الذوق العام، واختراق الخطوط الحمراء للمجتمع، بهدف حصد الرواج.
سيفسر لنا هذا ما نراه ونسمعه يومياً من أداء شاذ وصادم لبعض مذيعى برامج «التوك شو» فى الفضائيات والإذاعات الخاصة.
إن هؤلاء يتعرضون لضغوط أكبر من طالبى الشهرة السابقين كلهم، لأن الرواتب الضخمة التى يحصلون عليها، ولافتات الدعاية التى تُعلق لهم فى الشوارع، والعروض المالية الضخمة التى يرغبون فى الحصول عليها، كلها لا تأتى إلا من خلال الرواج.
من دون «ترافيك» يُطاح بعالم هؤلاء المذيعين، وقد يفقدون وظائفهم نفسها، وليس فقط بريقهم وشهرتهم؛ لذلك، فهم يفعلون أى شىء لكى «يدخلوا الأخبار»، بما فى ذلك الكذب، والتمثيل، والسب والقذف، والغناء، والرقص، واستخدام لغة الحارات المأفونة.
لقد أصبح طلب الشهرة يفوق فى كثير من الأحيان دوافع الحفاظ على السمعة والاعتبار.
إذا كان طالبو الشهرة يتجاوزون لـ«يدخلوا الأخبار»، فعاقبوهم بالتجاهل والنسيان، ولا تمكنوهم من بغيتهم على حساب المهنيين الجادين والمجيدين.
* نقلا عن "الوطن"