المواطنة والمشاركة السياسية: الحالة الليبية

علي المنتصر فرفر
نشر في: آخر تحديث:
وضع القراءة
100% حجم الخط

رغم تعدد المؤشرات ذات العلاقة بالمشاركة السياسية، إلا أن المبدأ السائد دولياً يتمثل فى أرتباط هذه المشاركة بقضية المواطنة التى تعتبرها النظم الدستورية والقانونية أساساً لممارسة حقوق الانتخاب والترشح والانخراط فى المنظمات السياسية الحزبية التى تتنافس وتتصارع من أجل الوصول الى السلطة عبر العمليات الإنتخابية. ولعل مسألة الإنتماء للمنظمات الأهلية والمهنية تمثل استثناءات مهمة، باعتبار تلك الأنواع من المنظمات مؤهلة لأن يكون لها دور بارز فى عملية التنمية السياسية وأن تكون لها أنعكاساتها المؤثرة على المواطنة والمشاركة السياسية معاً.
المواطنة بهذا المعنى هي هوية، أو هى إحدى الهويات التى ينتسب إليها الفرد، وهى تتضمن ولاءات سياسية متعددة، وليس بالضرورة هوية واحدة، بمعنى أن الإنتماءات السياسية قد يؤدّي تعددها الى تناقضها أو تعارضها أحياناً.

أضف إلى ذلك أن الضعف الذى قد يعتري هذه المنظمات، وفقدان قدرتها على الإستجابة لطموحات أعضائها قد يؤدي إلى انحسارها وتقهقرها أو إلى زوالها أحياناً، الأمر الذى يعني أن هوية المواطنة مسألة ديناميكية تتغير بتغير الظروف والأوضاع، وليست مجرد هيكل ثابت من الولاءات والإنتماءات.

وفى عصر العولمة برزت هياكل فوق وطنية جعلت مسألة الهوية الوطنية واحدة من الهويات المتعدّدة بشكل يجعل من الممكن الحديث عن مواطني الأسواق ومواطني الفيسبوك والتويتر، وغيرها من وسائط التواصل الإجتماعي، وهي حالات لا بدّ من رصدها وفهمها والعمل على إدراك آثارها ونتائجها بغض النظر عن أية أحكام قيمية بشأن الإيجابيات أو السلبيات المرتبطة بوجودها وأنشطتها، لأن السؤال الأهم يتمثل فى كيف يمكن لنا أن نضمن وجود مواطنة فاعلة وديمقراطية قوية رغم تغير الظروف والأوضاع، ذلك أن التغير سنة بشرية ترتبط بالأفراد كأفراد، وبالهياكل والبنى التى يؤسّسونها فى مختلف الشؤون والمجالات.

هذه الكيانات، دولاً كانت أم تنظيمات، لا تحتل كل مساحات الحركة والتفاعل بين البشر، وكلما كانت هناك مساحات حرة، كانت هناك حركة، وكلما وجدت المساحات والحركة وجد الزمن الذى يعبره الأفراد مثلما تعبره الهياكل التى يؤسّسونها لخدمة مقاصد وأغراض قد تتغير هى الأخرى بتغير الأزمان، إلا أن الزمن الذى يعبره الأفراد الطبيعيون محدود المدى، بينما تعيش الهياكل والتنظيمات فترات زمنية غير محددة رغم تغير محتواها من الأفراد الطبيعيين الذين يأتون ويذهبون وتبقى الهياكل والتنظيمات.

لذا تكون السمة الغالبة للهياكل التى من المفترض أن تجسد المواطنة هي سمة التعدد والتباين، مما قد يولد الشعور بالإرتباك والإنشطار والتجزيئية وسيادة حالة من عدم اليقين، بيد أن الأمر إلإيجابي فى ذلك هو أن هذه الهياكل تتيح مجالات النشاط لفئات متعددة من الأفراد كما يمكن تقديمها كقرابين من أجل التطور إذا ثبت عجزها وعدم قدرتها على الإستجابة لحاجات الناس ورغباتهم، أي أنه من الافضل أن تموت هذه الهياكل بدلاً من أن يموت الأعضاء المنضوون داخلها أو الجمهور الخارجى المرتبط بعملها ونشاطها.

وفى ضوء هذا المنظور يمكن لنا تجاوز تلك الرؤى السلبية لمسألة المواطنة التى غالباً ما يثيرها أصحاب الرؤى النقدية، باعتبار تلك السلبيات مسألة عابرة ربما قادت إليها ظروف معينة، ولكنها سرعان ما تذوي وتنقشع مع تطور المستوى السياسى للأفراد والجماعات. وهكذا يمكن لنا أن نفهم مثلاً ما يلاحظه البعض حول (مواطنة السوق ومواطنى الأسواق) كتلك التى رصدتها الباحثة فيرونيكا شيلد حول التأثير السياسي لبرامج الحد من الفقر التى اتخذتها الحكومة الإشتراكية فى تشيلى عام 1990، والتى حولت فى رأيها الطبقة العاملة الى مواطنة منضبطة سياسياً تسعى فى المقام الأول الى المشاركة الفاعلة فى السوق، ويصبح أفرادها أصحاب مشروعات إقتصادية بها هدفهم الأول والأخير ضمان بقائهم الإقتصادى مما يبرّر فى رأيها نعتهم بأنهم مواطنو الإستهلاك.

ولربما ولَى زمان المثالية السياسية الذى عبّر فيه مفكر مثل مونتسكيو عن الوطنية العالمية بقوله (إننى أحب وطنى لا لأنه المكان الذى ولدت فيه، ولكن لأنه جزء من العالم الذى أنتمى إليه) وبقوله أيضاً (لو كنت أعلم شيئاً ما يمكن له أن يخدم وطني، ولكنه يهدم وطناً آخر، لم أكن لأقترح هنا الشئ على حكومة بلادي فرنسا، لأنني إنسان أولاً وفرنسى ثانياً، فأنا إنسان بحكم الضرورة، ولكننى فرنسي بمحض الصدفة) كما أنه لم يتكرر نمودج دستور الثورة الفرنسية لعام 1793 الذى كان يتيح لكل شخص أجنبى بالغ أقام فى فرنسا لمدة عام واحد الحصول ليس فقط على الجنسية الفرنسية، بل أيضاً الحصول على جميع حقوق المواطنة بما فيها حق الإنتخاب، وتقلصت حقوق الأجانب فى أغلب بلدان العالم لكي لا تتعدى بعض الحقوق الإجتماعية، بيد أنه فى عصر الهجرات الجماعية الضخمة التى تعبر الحدود الوطنية بإذن وبدون إذن لا بد للمجتمع الدولي أن يعيد فهم مسألة المواطنة وتفسيرها بما ينسجم مع هذه المعطيات التى تفرض نفسها رغم كل الجهود التى تبذلها كثير الدول الوطنية فى مجابهتها أو على الأقل الحد منها، وهو ما يفرض مراجعة العمل السياسى لأننا ـ مثلما لاحظ أرسطو منذ زمن بعيد ـ نمارس السياسة من أجل صون حياتنا كبشر، لكن ممارسة السياسة ليست هي الفضيلة التى نصبح من خلالها بشراً.

أي أن الامر يتطلب ممارسة سياسة جديدة على المستويات الوطنية والدولية تعكس القيم الإنسانية لمسألة المواطنة. أمّا أساليب القهر والقمع والمتموضع والتقوقع وتشييد الجدران العالية ونصب الأسلاك الشائكة، فهذه لا يمكن لها أن تشكل حماية للوطن ولا للمواطنين، لأن الحماية الحقيقية تتمثل فى الممارسة السياسية الواعية من أجل تحقيق التعامل الإنسانى الأمثل مع مثل هذه الظروف.

واستناداً إلى ما طرحه عالم الإجتماع الأمريكي أتزيوني فى إطار دراساته حول قضايا النزاع والسلام، فإننا يمكننا إستعارة النمودج الذى أبرزه لدراسة العلاقة بين السلطة والنشاط البشري داخل مختلف التنظيمات لكى نستطيع من خلاله النظر إلى المواطنة فى ضوء ثلاثة أنواع من السلطة مقابل ثلاثة أنواع أخرى من المشاركة لكي نحصل على تسع فئات متميزة عن بعضها البعض.

ومثلما أكد أتزيوني فإن العلاقات تمثل علاقات أكثر تجانساً بشكل يمكن لها أن تجعل النشاط البشري أكثر وضوحاً واستقراراً بينما تعبر باقي العلاقات عن أوضاع أقل تجانساً ممّا قد يجعل المجتمع أكثر عرضة للأزمات والنزاعات. إن الميزة التي يتمتع بها هذا النموذج التفسيري تتمثل في أن المواطنة والمشاركة لا توجدان في فراغ بل ترتبطان بالضرورة بنوع السلطة القائمة التي لها امكانات البطش والتحفيز والتوجيه عبر مختلف الوسائط القمعية والقانونية والاقتصادية والإعلامية والثقافية. القمع يمثل إجباراً، والاقتصاد يمثل تحفيزاً، والقانون يمثل توجيهاً، والإعلام والثقافة يمثلان دعوة وترغيباً؛ أي أن عناصر القوة والقانون والمال واللغة تمثل ركائز أساسية تساعدنا على فهم المواطنة والمشاركة في ضوئها. ورغم أن هذا النموذج إيضاحي تفسيري يعمد إلى إيجاد ربط ثنائي بين هذه العناصر، إلا أنه من الناحية الواقعية فإن المزاوجة بين أي عدد منها قابل للتحقق أحياناً بمعنى أن تسعى السلطة القهرية مثلاً إلى عزل فئات اجتماعية معينة وتحفيز أخرى وربط غيرها بقيم أخلاقية وهو ما يترتب عليه زيادة تعقيد فهمنا لمسألتي المواطنة والمشاركة.

العزوف الانتخابي

ولو أردنا النظر في العلاقات الثلاثة الأكثر انسجاماً في نموذج أتزيوني، فإنه يمكننا أن نبدأ بأولاها التي تعبر عن الانسحاب والانعزال الذي يحدث في ظل الأوضاع السلطوية، وهذا أمر يمكن فهمه في ضوء أن السلطة القاهرة تدفع بالأفراد نحو التراجع والإنغلاق، حيث لا مجال للمبادرة والمشاركة إلا في المساحات التي تسمح بها السلطة، لكن السؤال الذي نحتاج إلى محاولة الإجابة عنه هو: كيف يمكن لنا أن نفسر الانسحاب أو الانعزال في ظل الأنظمة التي تصنف نفسها بأنها أكثر ديمقراطية، حيث تدنت نسبة المشاركة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2014 مثلاً إلى 36.4%، مثلما شهدت كثير من بلدان العالم بشكل عام تراجعاً في أرقام عضوية الأحزاب والنقابات وفي روسيا ذكر اكثر من %80 من الشباب انه ليس لديهم أي اهتمام بالسياسة؛ حيث ذكر %19 فقط من الشباب ان ليهم اهتماما بالسياسة مثلما ورد في استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا الروسي بالتعاون مع مؤسسة فريدريك ايبرت الألمانية.

هنا تختلط التفسيرات بالتبريرات؛ فمنذ العام 1793 تحدث الصحفي والكاتب البريطاني وليام قودوين صاحب كتاب "العدل السياسي" عن مبدأ تخليص السياسة من الديمقراطية المفرطة، وتخليص الدبمقراطية من المشاركة المفرطة لأنه وفقاً لرأي تودوين فإن صوت الشعب ليس صوت الحقيقة ولا صوت الله، كما أن التوافق بين الناس حول أمر ما لا يمكنه أن يجعل الخطأ صواباً. وفي كتاب سخرية أقدار الديمقراطية لصاحبه هارمون زيغلر يرد التعبير النخبوي للديمقراطية بشكل أكثر وضوحاً حين يقول: إن الديمقراطية هي حكم الشعب، ولكن مسئولية بقاء الديمقراطية تقع على كاهل النخب. إذا كان بقاء الديمقراطية الأمريكية يعتمد على المواطنة الفاعلة والمتعلمة والمتنورة لكانت الديمقراطية الأمريكية قد أختفت منذ أمد بعيد لأن جماهير المواطنين الأمريكيين لديهم عدم اكتراث، ونقص في المعلومات حول السياسة عموماً والسياسة العامة، كما أن لديهم إلتزاماً ضعيفاً بالقيم الديمقراطية، إلا أنه لحسن الحظ فإنه فيما يختص بالقيم الديمقراطية الأمريكية الجماهير ليست قائدة بل منقادة.
وفي نفس الإطار جاء تقييم المفكر الألماني هابرماس لهذه المسألة؛ ففي مؤلفه الذي نشره عام 1972 عن مفهوم المشاركة السياسية خلص إلى القول بأن الإفراط أو الإسراف في المشاركة السياسية له آثار سلبية؛ ذلك أن العزوف وعدم الإكتراث لهما نفس قيمة المشاركة، لأن سوق السياسة يتطلب دوماً وجود احتياطات بشرية يمكن العمل على تعبئتها عند الضرورة. وفي تفسير آخر للباحث الألماني ريتشارد مونخ، فإن ما تشهده المجتمعات المعاصرة من عمليات تضخم يؤدي إلى التقلص والتراجع؛ فالتضخم في حجم الإتصال السياسي يؤدي إلى العزوف، والتضخم في الإقتصاد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ونقص الطلب، والتضخم في اللغة يتطلب من المتحدثين في الإعلام وخارجه استخدام الكلمات الكثيرة والمثيرة والنصوص الطويلة من أجل نقل المعلومات والآراء والأفكار.

ووفقاً لهذه التصورات فإن الأمر يتعلق بالبحث عن نقطة تعادل بين المشاركة والعزوف يكون ما زاد أو قل عنها ذا أثر سلبي على العلاقات السياسية بين الأفراد والجماعات والمنظمات. ورغم أن جميع هؤلاء المفكرين يجمعون على أن المواطنة والمشاركة تمثلان جزءاً من أهم القيم السياسية للديمقراطية، وأن الممارسة السياسية القائمة على المشاركة تمثل الطريق نحو تحقيق "الديمقراطية القوية" حسب تعبير بنجامين باربر الذي يميز بينها وبين الديمقراطية الضعيفة، إلا أن الخطر هنا وفقاً لهذه التوجهات يكمن في النزعات الجماهيرية التي يعبر عنها بشكل مباشر من خلال الإستفتاءات الشعبية التي من شأنها أن تقود إلى طغيان الأغلبية؛ أي أن صون الحرية ضد هذه الأخطار المحدقة بها لا يقتصر على حمايتها من خطر الحكومة بل أيضاً من خطر طغيان الرأي العام كل ذلك يأتي في إطار محاولات مجابهة حالات اللاعقلانية في السياسة التي تحدث عنها بشكل مستفيض غوستاف لوبون في كتاب سيكولوجية الجماهير منبهاً إلى خطر ما أسماه بالعقل الجمعي الذي لا يمكن لجمه من خلال القوانين والمؤسّسات، لأن الجماهير في رأيه تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق.

التحفيز الانتخابي

أما النوع الآخر من العلاقات الأكثر انسجاماً بين نوع السلطة ونوع المشاركة فهي تتعلق بالمسألة التحفيزية النفعية، وهي التي تتحقق عملياً من خلال الإجراءات التي تتخذها بعض البلدان بشأن تمويل الأحزاب من الخزانة العامة للدولة من أجل ضمان التعددية السياسية ومنع احتكار أحزاب طليعية للمشهد السياسي. ورغم أن هذه المسائل تتم من خلال إجراءات قانونية، إلا أن فلسفة هذه الإجراءات ونتائجها العملية لا تزال محل شك من قبل الكثيرين الذين يرون أن الحكومات التي تأتي أحزابها على رأس هرم السلطة قد لا تكون مؤهلة لأن تكون الحكم الذي يقرر تحفيز النشاط السياسي من خلال العوائد المالية المباشرة أو غير المباشرة. وسواء كان هذا الدعم بشكل متساوٍ لكل الأحزاب، أو وفقاً لحجمها السياسي في الدولة من حيث مستوى تمثيلها في المجالس النيابية، تظل المشكلة تتمثل في أن المحصلة النهائية لعملية التمويل هي أن الأحزاب الغنية أصلاً تزداد قدرة على ممارسة أنشطتها السياسية بينما لا تستطيع الأحزاب الأفقر مادياً أن تستفيد كثيراً من هذا الدعم لمجاراة أو مضاهاة الأحزاب الأغنى المنافسة لها.

وعلى مستوى الناخبين أنفسهم تظل الفوارق الاقتصادية مشكلة المشاكل في تحقيق مبدأ المواطنة أولاً خاصة حينما تتحول الأمة الواحدة إلى أمتين: أمة الأغنياء وأمة الفقراء، وفي تحقيق مبدأ المشاركة ثانياً عندما يكون السعي من أجل لقمة العيش الهم الأول والأخير لملايين الفقراء الذين تكون المشاركة السياسية في ذيل اهتماماتهم بحكم الضرورة لا بحكم الإختيار، من هنا يمكن لنا أن نتفهم النداء الذي وجهته ماينا كياي المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة حول الحقوق والحريات المرتبطة بالتجمع السلمي وتكوين الجمعيات والذي يقضي بضرورة التوقف عن نعت الدول بأنها "ديمقراطية" لمجرد إلتزامها بعقد انتخابات دورية وهو ما يتطلب العمل على تقييم الديمقراطيات بناءً على المدى الذي تعمل فيه على خدمة الفئات الأضعف والأفقر في المجتمع.

وبالنظر إلى التكاليف المرتفعة للحملات الإنتخابية والرئاسية خاصة وعد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في أول مؤتمر صحفي له بتاريخ 13/12/2019 بأن تتولى الدولة مستقبلاً تمويل حملات الترشح للشباب من أجل ضمان مشاركتهم الانتخابية كمترشحين وليس فقط كناخبين، وقد أتى ذلك في إطار أدنى نسبة للمشاركة الإنتخابية سجلت في تاريخ الانتخابات في الجزائر والتي بلغت 39 % أي بواقع عشرة ملايين ناخب من أصل أكثر من 24 مليون مسجلين في القوائم الإنتخابية. لكن وعداً مثل ذلك الذي أطلقه الرئيس الجزائري يحتاج إلى أطر قانونية لتنفيذه، وهو ما يعني خوض صولات وجولات بين مختلف الأحزاب والتيارات السياسية.

بيد أن الواقعية السياسية تشير إلى صعوبة قيام الحكومات بتمويل الحملات الانتخابية لمترشحين يسعون إلى إخراجها من السلطة والحلول بديلاً عنها. لذا يكون لزامًا التفكير في أطر جديدة لضمان تعددية المنابر السياسية من جهة، وضمان توسيع قاعدة الناخبين والمترشحين من جهة أخرى؛ إذ ليس هناك ما يضمن أن تتولى الحكومات أو رجال الأعمال تمويل حملات انتخابية بعيدًا عن المصلحة السياسية لأي منها؛ فالسياسة كما عبر عنها هارولد لاسويل تتمحور حول تساؤلات رئيسية تتمثل في: من؟ يحصل على ماذا؟ متى؟ وكيف؟ وهو ما يعني ضرورة التفكير في بدائل أفضل للعلاقات السياسية النفعية، ولربما يكون ضمن إطار الحل إيجاد وقفيات سياسية مستقلة تؤسّس وفقاً للقوانين الوطنية تتولى استلام ما تخصصه لها الحكومات إضافة إلى تبرعات رجال الأعمال والمواطنين العاديين من أجل تمويل الحملات الانتخابية للمترشحين الأقل دخلاً وفقاً لبرنامج منح أو قروض.

المسؤولية الإنتخابية

جدل الحرية والمسؤولية جدل قديم جديد، ولكن ما يميز هذا النوع من الجدل ارتباطه بالجانب الأخلاقي بالمعنى العام للأخلاق، أي القيم والأسس والمبادئ والتقاليد وأنماط الثقافة والممارسة التي ترتبط بأحكام ورؤى قيمية، كما أن السلطة المرتبطة بهذه الأمور هي في أغلبها سلطة أدبية لا علاقة ضرورية لها بالقمع أو التحفيز المادي. وفي إطار الدراسات التي أجراها عالم الإجتماع الأمريكي إيريك فروم كانت هناك محاولات علمية جريئة من أجل معرفة الأسباب التي تكمن وراء التخلي عن المسؤولية والخوف من الحرية لدى بعض الجماعات البشرية في بعض الأزمان، وكان تفسيره لذلك منصباً على أن الطبيعة البشرية لا يمكن النظر إليها باعتبارها كياناً جامداً، بل من خلال التناقضات الدراماتيكية في الوجود الإنساني ثقافياً ونفسياَ وبيولوجياَ.

ذلك يعني أن الحرية والمسئولية فيما يتعلق بالانتخابات أو بغيرها من المجالات ورغم الأبعاد الأخلاقية لهما يمكن أن تكونا محكومتين بشروط وظروف ومعطيات قد تؤثر عليهما سلباً أو إيجاباً، زيادة أو نقصاناً. لكنه في كل الأحوال فالمسئولية هي أساس الحرية، والإنسان حر لأنه مسئول، أي أن الإنسان لم يخلق حراً ثم أصبح يبحث أو يُبحث له عن المسئولية، بل العكس هو الصحيح، أي أن الإنسان مسئول، ولذا أعطي الحرية لكي يستطيع أن يتحمل هذه المسئولية، ولكي يصبح مبدأ المحاسبة ممكناً. الإنتخابات مسئولية لأنها تمثل إحدى دعائم تأكيد الإرادة السياسية للمواطنين، ولذا لا بد أن تكون هذه الإنتخابات حرة لكي تجسد حرية الإرادة السياسية.

وعلى غرار جدل الحرية والمسئولية يكون جدل المواطنة والمشاركة؛ ذلك أن أفضل أنواع التفاعل بين الإثنين يتمثل في تحقيق مواطنة المشاركة أو المواطنة القائمة على المشاركة التي تجسد مسئولية الأفراد خلال عمليات اتخاذ القرار، وليس المواطنة بمعناها المحايد القائم على قواعد ونصوص دستورية أو قانونية جامدة. وعلى الرغم من أن المشاركة الحرة والمسئولة هي أداة لتكوين السلطة الديمقراطية، فإن الانتخابات في حد ذاتها ليست سلطة، بل قاعدة إجرائية لتكوين السلطة، وفي رأي شومبيتر فإن الناخبين عادة لا يملكون حتى سلطة التحكم في القادة الذين انتخبوهم والسبيل الوحيد هو إستبدالهم إنتخابياً بقادة آخرين، ويترتب على ذلك أن المشاركة تتطلب فقط توفر عدد كافٍ من الناخبين لضمان استمرار عجلة الآلة الإنتخابية في الدوران.

وفي مقابل ذلك فإن المشاركة في هذه القاعدة الإجرائية أي الانتخابات مبدأ ومسئولية تجاه الوطن والمواطنين الآخرين، كما أن أغلب الحقوق الإنسانية تمثل في حقيقتها شروطاً للمشاركة الفاعلة في بناء المواطنة. الحديث هنا إذاً هو عن المواطنين ومشاركتهم الفاعلة والمسئولة، بيد أن هؤلاء المواطنين ينضوون ضمن هياكل ومؤسّسات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ومعرفية تؤطر مشاركتهم؛ الأمر الذي يعني إشكالية تأثير الوسائط البيروقراطية على مسألتي المواطنة والمشاركة؛ فالبيروقراطية كما لاحظ الكثيرون يمكن لها أن تسود ولكن لا يمكن لها أن تقود. هذه الوسائط البيروقراطية يمكن إدارتها ولكن لا يمكن حكمها رغم تأثيرها البالغ على السلطة ومسألة اتخاذ القرار وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكي نيكسون ذات مرة بقوله أن أمريكا يحكمها الجمهوريون والديمقراطيون والبيروقراطيون.

أما أبرز الحقوق الجماعية في اتخاذ القرار فهو حق تقرير المصير الذي قد تشكل الانتخابات أداة فاعلة لتجسيده سياسياً، ولتأكيد القدرة على التصحيح الذاتي للقرارات الجماعية، ولتحقيق التثقيف الذاتي حول السياسة وشئونها وشجونها، وهنا تتداخل مسألة المواطنة مع مسألة تقرير المصير من حيث أن التمتع بحق المواطنة شرط أولي لممارسة حق تقرير المصير، الذي هو فعل يستطيع ممارسته كل مواطن شرط امتلاكه القدرة على ممارسته.

ولكي يتجسد الطابع الديمقراطي لمثل هذه الممارسات للحقوق والحريات، فإن جهدا كبيراً لا بد له أن يبذل لترسيخ الثقافة السياسية القائمة على مبدأ المواطنة المبادرة عبر مختلف الأشخاص والتنظيمات كي لا تتحول الانتخابات والاستفتاءات إلى مجرد ردود أفعال حول ما تطرحه السلطات الوطنية على المواطنين الكرام من قضايا وشئون تكون استجابات الجمهور المطلوبة إزاءها مربوطة بخيارات وبدائل محدودة معدودة، بل قد تتقلص إلى حفنة من المترشحين أو تختزل في كلمتي نعم أو لا. ولعل أبرز ما تتسم به عدد من الساحات السياسية التي تشهد حركات احتجاجية شعبية عارمة يتمثل في عدم القبول بالخيارات التي تطرحها السلطات القائمة، واللجوء بدلاً من ذلك إلى خيار رفض هذه الخيارات الجاهزة المعلبة وطرح خيار "ليس أياً من الخيارات السابقة" بالطريقة التي تعكسها هتافات المتظاهرين الذين يريدون إزاحة جميع رموز السلطة السابقة من أجل خلق مناخات سياسية أكثر ارتباطاً بالناس وبطموحاتهم وتطلعاتهم.

الحالة الليبية

لم ترتبط المواطنة بالمشاركة السياسية بشكل كامل في الحالة الليبية عند تحقيق استقلال البلاد في 24/12/1951؛ إذ نص أول قانون انتخابي صدر في البلاد بتاريخ 6/11/1951 في مادته الأولى على أنه يعتبر ليبيّاً كل شخص يقيم في ليبيا وليس لديه جنسية أخرى، ولا يكون من رعايا بلد آخر إذا ما استوفى شرط أن يكون هو أو أحد والديه قد ولد في ليبيا، وأنه أقام في ليبيا مدة لا تقل عن عشر سنوات.ولكن المادة الثالثة في نفس القانون تشترط لممارسة الحق الانتخابي أن يكون الناخب ليبيّاً ذكراً قد أكمل واحداً وعشرين عاماً ميلادياً. وبهذا تكون المرأة الليبية قد تم شمولها بالمواطنة ولكن تم استبعادها من المشاركة الانتخابية. ولم يكن هذا الموقف القانوني إزاء المشاركة السياسية للمرأة حكراً على ليبيا، إذ شهد تاريخ بلدان أخرى إجراءات مماثلة حيث نص دستور 1791 في فرنسا مثلاً على استثناء النساء من حق الانتخاب، ومن حق ترشيح ممثلين للمرأة في المنتديات الثورية وفي كومونة باريس؛ بيد أن هذا الأمر يحتاج إلى دراسات دولية مقارنة عن مسألة التطور التاريخي لعلاقة النوع البشري بالحقوق السياسية عموماً وحق الانتخاب بشكل خاص.

وفي كل الأحوال، فإن الممارسة الانتخابية الليبية معدودة محدودة بشكل لا يتيح المجال لتحقيق راسخ لثقافة المشاركة؛ فمنذ استقلال البلاد عام 1951 لم يتم اجراء سوى خمسة انتخابات برلمانية خلال العهد الملكي في تواريخ: 19/2/1952 و7/1/1956 و 17/1/1960 و 10/10/1964 و8/5/1965، ثم انتخابات المؤتمر الوطني العام بتاريخ2012/7/7 وانتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور بتاريخ 2014/2/2 وانتخابات مجلس النواب بتاريخ 25/6/2014. وبالرغم من أن المعيار الأبرز في عملية الإنتخاب لا يتمثل فقط في عدد مرات إجرائها؛ بل أيضاً في مدى أهمية القرارات التي تتخذ من خلالها؛ فإن مسألة مدى المشاركة تمثل عنصراً هاماً من عناصر الفعل الديمقراطي.

فإذا تجاوزنا الانتخابات البرلمانية الخمسة التي أجريت خلال العهد الملكي باعتبار أن المشاركة فيها انتخاباً وترشحاً كان حكراً على الذكور؛ فإن الانتخابات الثلاثة التي جرت خلال عامي 2012 و 2014 شهدت انحساراً في نسبة المشاركة التي وصلت إلى حوالي 62% خلال انتخابات المؤتمر الوطني العام عام 2012 ثم تراجعت إلى حوالي 45% في انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور عام 2014 وازدادت تراجعاً إلى حوالي 42% في انتخابات مجلس النواب في شهر يوليو من نفس العام (2014).

لم تكن مرحلة التحوّل الديمقراطي عبر الانتخابات في ليبيا سهلة ولا مريحة؛ إذ شهدت الانتخابات البرلمانية التي عقدت عام 1952 مشاحنات حول نتائجها، حيث حصل داعمو الملك على عدد 37 مقعداً من أصل 55، بينما لم يحصل حزب المؤتمر الوطني بزعامة بشير السعداوي إلا على ثمانية مقاعد؛ الأمر الذي أدّى إلى وقوع اضطرابات بسبب ما ذكره حزب المؤتمر الوطني عن وجود تلاعب في النتائج الانتخابية مما قاد إلى إعلان الملك ادريس إلغاء الأحزاب السياسية، وأرغم بشير السعداوي على الخروج إلى المنفى بمصر بتاريخ 22/2/1952، أي بعد ثلاثة أيام فقط من تاريخ عقد هذه الإنتخابات.

ولربما كان شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي قد استشعر مبكراً مصدر الصعوبات التي قد تواجه العمليات الإنتخابية الليبية عندما رشحته الجمعية الوطنية (جمعية عمر المختار) لعضوية مجلس نواب برقة حيث نشرت على ورقة الدعاية الانتخابية لحملتها صورة شخصية له مرفقة مع بيتين له من الشعر:

حكم ضميرك (أنت حر) وانتخب خير الرجال لمجلس النواب
لا يمنعنك من أداة شهادة حب القبيلة أو هوى الأحزاب

ففي الوقت الذي تغيب فيه الثقافة السياسية الواعية، تصبح احتمالات استخدام القبيلة التي هي كيان اجتماعي سياسياً، والسعي إلى تقديم المصالح الحزبية الضيقة على مصلحة الوطن عائقاً أمام القرار الانتخابي الوطني الحر، لأن إدلاء المواطن بصوته - كما يراه الشاعر- يمثل شهادة مثل الشهادات التي تقدم لدى المحاكم، والتي يجب وفقاً لقواعد الشرع والأخلاق أن تتسم بأعلى درجات المصداقية والنزاهة.

بيد أن منطق الحل في مثل هذه المسائل لا يمكن له أن يتمثل بطبيعة الحال في تجاوز القبائل أو إلغاء التنظيمات السياسية؛ بل في الحرص على تأصيل ثقافة الحوار ونبذ الأصولية والإقصاء، لأن التواصل والحوار يرتبطان دائماً بمبدأ التعددية والسعي الحثيث نحو توفير أقصى قدر ممكن من المعلومات والمعارف من أجل تكوين آراء مستنيرة ناضجة يمكن من خلالها الوصول إلى القرارات الصائبة لمصلحة الوطن والمواطن.

ولقد أشارت دراسة أجرتها المؤسّسة الدولية للنظم الانتخابية في ليبيا عام 2018 إلى موافقة 54% من الليبيين الذين شملتهم عينة الدراسة على مبدأ أن الانتخابات تعطي المواطن العادي الفرصة للتأثير في عمليات اتخاذ القرار في ليبيا، كما أشارت نفس الدراسة إلى أن 84% منهم يرون أن الانتخابات مسألة مهمة يجب أن يشارك بها كل ليبي، وهو ما يعني أنه رغم الإحباطات التي عاناها الليبيون من قبل الأجسام السياسية التي أنتجتها هذه الانتخابات، فإنهم لا يزالون يثقون بأنفسهم وبقدرتهم على تغيير مجرى الأمور في البلاد عبر الأساليب الديمقراطية. كل ذلك يقود إلى ضرورة ترسيخ ثقافة الديمقراطية من خلال الممارسة، والسعي إلى التصويب المستمر لأية أخطاء قد تحدث خلالها؛ إذ لا يمكن أن تتوقف عجلة البناء الديمقراطي بسبب أخطاء ترتكب، ولا يمكن تأجيل هذا البناء إلى حين توفر الشروط المثالية لتشييده.

أما الإعلام فبإمكانه أن يسهم في تسريع إنجاز هذا البناء اذا ما التزم الاعلاميون فيه بأن تكون المنابر الإعلامية الليبية منابر مشتركة لكل الليبيين. الإعلام يحتاج إلى أن يصبح وسيلة الأفراد لتحقيق ذواتهم، وأداة لتطوير المعرفة واكتشاف الحقيقة، والوسيط القادر على تحقيق مشاركة الناس في اتخاذ القرار، وإيجاد مجتمع مستقر قادر على تجاوز الفساد الانتخابي، وفضح كل ما تريد السلطة الحاكمة إبقاءه بعيداً عن مسامع الناس وأنظارهم، أي باختصار كل مظاهر سوء استخدام السلطة، ومظاهر تهديد المؤسسات الديمقراطية. الإعلاميون في خضم المنافسات السياسية ليسوا مرشحين لأي موقع سياسي، وليسوا أداة بيد أي تيار سياسي أو جسر عبور لأي من تلك التيارات من أجل الوصول إلى السلطة، وليسوا طرفاً سياسياً على مسرح السياسة، لأن الإعلامي المهني بهذا المعنى ليس المؤلف المسرحي، ولا مخرج المسرحية، بل هو الشخص المؤتمن من قبل الناس على تجهيز قاعة المسرح لكي يستخدمها كل من يرغب في عرض أي من أعماله خدمة للوطن والمواطنين.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
انضم إلى المحادثة
الأكثر قراءة مواضيع شائعة
  • وضع القراءة
    100% حجم الخط