تونس والرئيس والحكومة المصغرة
ينتظر التونسيون تشكيل حكومة جديدة في بلادهم كجزء من التدابير التي بدأ الرئيس قيس سعيد في اتخاذها منذ الخامس والعشرين من يوليو الماضي، عندما أعلن عن تجميد صلاحيات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وحل حكومة هشام المشيشي، وقام بعد ذلك بتكليف شخصيات بتسيير وزارات الداخلية والمالية وتكنولوجيا الاتصالات، ربما لأنها الوزارات الأكثر أهمية ولأن وظائفها الأكثر حساسية في هذه المرحلة بالذات.
اليوم هناك نداءات عدة موجهة للرئيس، لعل أبرزها تلك الصادرة عن الاتحاد العام التونسي للشغل بأن تكون الحكومة المنتظرة مصغرة لا يتجاوز عدد أعضائها 20 وزيرا، يكون رئيسها خبرة، وخاصة في المجالين المالي والاقتصادي، ويرسل إشارات إيجابية للتونسيين وللمانحين الدوليين، ومن الطبيعي أن تكون حكومة كفاءات وغير مسيّسة، وأبرز أولويات الرئيس سعيد ألا يكون أي من أفرادها ملاحقا بشبهات فساد.
يعتقد الرئيس سعيد أن السلطات التنفيذية في بلاده قد تشتتت أكثر من اللزوم بسبب فخاخ الدستور وعبث الأحزاب وفي مقدمتها حركة النهضة، لذلك قرر جمع تلك السلطات بين يديه في محاولة منه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو يريد اليوم أن تكون الحكومة الجديدة تحت إشرافه المباشر، وهذا يتطلب أن يكون رئيس الحكومة من الكفاءات القادرة على الانكباب على عملها ولاسيما في ما يتعلق بالأزمتين الاقتصادية والصحية، دون النظر إلى الصراعات السياسية أو الاندماج فيها، ودون الولاء لأي طرف حزبي، وسيتولى الرئيس بنفسه متابعة أدق تفاصيل العمل الحكومي، كما سيكون عليه حشد المزيد من الدعم الخارجي، وخاصة بعد أن تلقى وعودا مهمة من عواصم عربية بدعم المالية العمومية في بلاده عبر صندوق خاص مشترك، وتمكين تونس من هبات وقروض وودائع مصرفية لتحريك دواليب اقتصادها المعطلة.
الأطراف الدولية، ولاسيما العواصم الغربية، تتفهّم مجريات الأحداث في تونس، وهي وإن أبدت حرصها على الدفاع عن الحالة الديمقراطية الناشئة، إلا أنها تمتلك ملفات مهمّة عن الفساد وسوء التصرف وغياب الخبرة والتجربة والحكمة لدى أغلب الحكومات التي تداولت على قصر القصبة خلال السنوات الماضية، وذلك كنتيجة حتمية لتعامل الأحزاب وفي مقدمتها حركة النهضة مع الحكم كغنيمة وتقاسم مصالح ونفوذ وأداة للتمكين، وليس كمسؤولية جسيمة لخدمة الشأن العام.
ولذلك كان واضحا أن أغلب العواصم الغربية، بما فيها تلك الداعمة كليّا أو نسبيا للإسلام السياسي لم تصدر مواقف منددة بتدابير الرئيس سعيد، وتتهمه بالانقلاب على الشرعية، ولم تستمع إلى نداءات وتحذيرات الغنوشي والمقربين منه، ولا إلى افتراءات الإعلام الإخواني، واكتفت بتوجيه بعض الرسائل السرية لقصر قرطاج أغلبها يحث على التسريع في الخروج من الأزمة السياسية بوجهيها الدائم والمستجد.
حركة النهضة ذاتها تلقت العديد من المؤشرات سواء من داخلها أو من خارجها، ومن المجتمع الدولي، مفادها أنه من الضروري منح الرئيس فرصة لتهدئة الوضع، ولقطع الطريق أمام أي حالة انفلات أمني أو اجتماعي كما حدث خلال احتجاجات الخامس والعشرين من يوليو التي استهدفت مقارها بالذات، وكانت ستتطور أكثر لو لم ينجح الرئيس في إيقافها بالتدابير التي اتخذها، والتي أنقذ من خلالها الإخوان قبل أي طرف آخر من غضب الشارع.
استطلاعات الرأي السرية قبل المعلنة كذلك، والتي أجرتها مراكز ومؤسسات أجنبية، أعطت للحكومات صورة واضحة عن موازين القوى في تونس، النهضة اليوم في حالة ترهل وتراجع وعزلة شعبية، عكس الرئيس سعيد، الذي يبدو أنه يعرف كيف يدغدغ مشاعر التونسيين، وكيف يلامس رغبتهم في العثور على من يشعر بهمومهم وقضاياهم، وكيف يعبر عن حاجياتهم، وخاصة عندما يتحدث عن الفساد ونهب المقدرات والتلاعب بمصالح الدولة والإفلات من العقاب.
اليوم، ومن أجل أن يجسد الرئيس رؤيته الإصلاحية، يحتاج إلى فريق حكومي مصغّر، ينكب على دراسة الملفات الصعبة وإيجاد الحلول المناسبة لها، ويوفر الغطاء اللازم لملاحقة أخطبوط الفساد المتغلغل في الوزارات ومؤسسات الدولة، ويضغط من أجل تجاوز الأزمة المعيشية للتونسيين. وسيعمل الرئيس سعيد على ضمان الغطاء السياسي اللازم انطلاقا من موقعه السيادي كرئيس منتخب وكرمز للمرحلة يرفع لافتة الإنقاذ.
مبدئيا هناك جملة من المسائل الخلافية المطروحة، أبرزها أن الرئيس لن يستطيع الاستمرار طويلا في تعليق صلاحيات البرلمان، رغم الدعم الشعبي الكبير الذي يحظى به، وأن أي حكومة جديدة لا بد أن تحظى بشرعية غير منقوصة لتستطيع مخاطبة العالم والتفاوض مع المؤسسات المالية الدولية، وهو ما يعني ضرورة نيلها ثقة مجلس نواب الشعب، فتونس ورغم تدابير الخامس والعشرين من يوليو، لم تعلق العمل بالدستور، وبالتالي تبقى جميع القرارات ولاسيما ذات العلاقة بالحكم والسيادة مرتبطة بالنصوص ولو كان حولها اختلاف.
في الراهن التونسي، هناك حاجة إلى حكومة مصغرة بمعزل عن الصراعات والتجاذبات السياسية لتقود البلاد نحو انتخابات مبكرة، وهذا ما يعمل عليه الكثير من الوسطاء في الداخل والخارج، على أن يعود البرلمان للعمل في إطار محدد وبتوافقات معينة غير قابلة للتمرد عليها، وبهدف واضح وهو الانتهاء من بعض المسائل العاجلة أبرزها القانون الانتخابي. الأوروبيون يدعمون هذا الاتجاه، والجزائر تقود من وراء الستار مفاوضات هدفها بالأساس عدم إخراج راشد الغنوشي من الباب الصغير، وإنما منحه فرصة الانسحاب محفوظ الكرامة، والاتصالات الجزائرية المستمرة مع السلطات التونسية، وبين الرئيس عبدالمجيد تبون ونظيريه التركي والقطري تصب في هذا الاتجاه.
سيكون على البرلمان أن يمنح الثقة للحكومة التي سيقترحها الرئيس، ولاسيما أن قرار رفع الحصانة عن النواب سيبقى قائما، كما أن التوازنات داخل المجلس ستكون لمصلحة الرئيس والأغلبية ستنسجم مع خياراته، والإسلاميون عموما يعرفون أنهم أصبحوا بين مطرقة قصر قرطاج وسندان الشارع المتهيئ في كل لحظة للتحرّك ضدهم، وأي تحرك قادم قد يصعب التصدي له، وهو ما تدركه حتى القوى الخارجية التي كانت إلى حد قريب راعية لتجربتهم.
نقلاً عن "العرب"