دفاعًا عن الملكيّات عقب الانهيار في أفغانستان
تزامنًا مع الانهيار الذي حصل ويحصل في أفغانستان فقد يكون الوقت ملائمًا لمناقشة موضوع يستهوي الساسة وكبار المثقفين في الغرب، وهو الترويج للديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي.
فالنقيصة الرئيسية في طريقة التفكير تلك كانت دائمًا الافتراض بأن الديمقراطية تشبه نوعًا من أنواع البرمجيات التي كل ما على المرء فعله هو تنزيلها وتشغليها، وبالتالي فيمكن تطبيق الديمقراطية بسلاسة ونجاح في أي بلد. وقد أدت طريقة التفكير تلك إلى التجربة المُروِّعة في العراق – حيث إنَّ الحرب وما يُسمى "إعادة البناء" في ذلك البلد تسببتا في مقتل أكثر من 800 ألف شخص، كما أنها جعلت ذلك البلد الغني بالنفط بعد عقدين من غزوه وفرض نمط معين من "الديمقراطية" فيه مفتقرًا حتى إلى أبسط متطلبات الأمن لشعبه – وحرمته في كثير من الأحيان من أكثر الخدمات أساسيَّةً مثل الكهرباء والماء.
ويمكننا أيضًا أن نرى نتائج طريقة التفكير المنقوصة تلك عندما نستعرض ما حدث في تونس – حيث إنَّ تجربة ذلك البلد التي طالما تمّ الترويج لها قد وصلت إلى طريق مسدود بعد عقدٍ ممّا يُسمى "الديمقراطية" التي أنتجت عشر حكومات خلال عشر سنين كانت كلٌّ منها تجد نفسها في وضعٍ ميئوسٍ منه وفساد وعجز عن تحقيق أي من الوعود البرّاقة التي كان يروج لها السياسيون لكي يتم انتخابهم. وكذلك الأمر فإن ما يحدث في لبنان منذ سنتين يقدم دليلًا إضافيًّا على الخلل الكبير في طريقة التفكير تلك، فالعالم كله رأى ويرى كيف تتجلى "ديمقراطية" لبنان الفاسدة والمفلسة والطائفية والتي يقودها أمراء الحرب المجرمون هناك، وكيف نجحت تلك الديمقراطية في سرقة مدخرات الشعب عبر النظام المصرفي المنهار - وفي حرمان اللبنانيين حتى من أبسط وأهم متطلبات الحياة اليومية مثل الوقود والكهرباء والأدوية.
أمّا الآن وبينما نشهد على الانهيار الكبير والكارثي في أفغانستان فإننا ببساطة أمام تجربة ديمقراطية أخرى فاشلة أدت إلى انهيار الدولة وإلى عودة حكم طالبان بعقليتهم التي لا تختلف عن تلك الخاصة بالقرون الوسطى.
ترى هل سيؤدي كل ذلك إلى تغيير في طريقة التفكير في واشنطن بخصوص أسلوب الحكم في الشرق الأوسط بشكل عام؟ ربما! فقد تؤدي المقارنة بين العديد من التجارب الديمقراطية الفاشلة من جهة، وبين الاستقرار والرفاه الذي قدمه الحكم العربي الملكي خلال المائة العام الماضية من جهة أخرى بالغربيين إلى التوصل لنتيجة مفادها أن نظام الحكم الأوتوقراطي (وإن كان غير محبوبٍ في الغرب) قد أثبت بأنه النظام الأنجح على الإطلاق في المنطقة.
ويجدر التذكير بأن مبادئ الغرب الحالية تتجاهل قرونًا مديدة من العذابات وسفك الدماء والتي أدت بالنهاية إلى جعل الشعوب المتعبة هناك تتقبل نظام الحكم الديمقراطي ونتائجه – ففي بريطانيا مثلًا استمرت تلك العذابات لألف سنة بعد اصدار وثيقة الماجنا كارتا. وفي حقيقة الأمر فإن الشعوب الأوروبية لم تصل لتحقيق الديمقراطية الحقة إلا عام 1990 وذلك بعد انهيار جدار برلين، كما أن أوروبا الغربية لم تصبح ديمقراطية إلا بعد عام 1945 وذلك في ظل الاحتلال الأميركي.
والحقيقة أن تركيز الغرب على محاولة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط قد شوَّش على خيارٍ آخر كان سيصبح أكثر نجاحًا وإثمارًا بكثير لو تم اعتماده – ألا وهو تطوير طريقة الحكم نفسها، والمقصود بذلك ليس كيف تصل حكومةٌ ما إلى الحكم أو كيف تحافظ عليه – بل بالأحرى كيف تحكم وتدير مختلف شؤون البلد وكيف تقدم الخدمات الأساسية والحقوق القانونية لمواطنيها. فلو تم التركيز على طريقة الحكم نفسها كان ذلك ليؤدي إلى وضع معايير واقعية ستسعى الحكومات جاهدة لتحقيقها. فبادئ ذي بدء يجب أن تتضمن تلك المعايير تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين من مثل الأمن والكهرباء والمياه – وهي خدمات أخفقت الكثير من الحكومات الحالية في تقديمها، ويتبع ذلك بالضرورة معايير تقديم خدمات الرعاية الطبية والتعليم والعمل – يتبعها معيار ضمان عدالة ونزاهة النظام القضائي، وهذا الأخير يمثل مستوىً عاليًا للغاية من المعايير بما يتضمنه من هدف نهائي هو ضمان حرية التعبير عن الرأي بالإضافة إلى حريات أخرى.
وهناك عنصر هام للغاية يجب عدم إغفاله، وهو أن الديمقراطيات الناجحة يجب أن تكون معززة بطيف سياسي واضح في المجتمع - مثل ذلك الذي يبرز فيه حزب المحافظين وحزب العمال في المملكة المتحدة، أو حزب الجمهوريين وحزب الديمقراطيين في الولايات المتحدة. والحقيقة أن إدارة الرئيس ترامب اليمينية المتطرفة الأخيرة قد اختبرت ما الذي يمكن لهذا التوازن السياسي أن يؤديه.
وتاريخيًّا علينا استحضار كيف أن انقسام أوروبا في النصف الأول من القرن الماضي بين الشيوعية والفاشية جعل من المستحيل التمهيد لإرساء الحكم الديمقراطي. والحقيقة أن هذا مشابه جدًا لوضعية الشرق الأوسط حاليًّا، حيث إن هناك طيفًا سياسيًّا واسعًا يطغى فيه لونان: الأول هو لون الإسلام الراديكالي كالذي تمثله طالبان وداعش، والثاني هو لون يمثله من يتبعون الليبرالية الغربية السياسية والاجتماعية، ومع الأسف فإن وضعية هذا الطيف لا تتيح أي مجال لحلٍ وسط. ولهذا السبب فإن الأوتوقراطية كانت طريقة الحكم الوحيدة التي تمكنت من تحقيق الاستقرار - وبالتالي من تقديم الحقوق الأساسية التي تتبعه من الأمان والخدمات اللازمة لاستمرار الحياة اليومية.
إن الفن الذي علينا إتقانه وممارسته بحرفية هنا هو "فن العملي والممكن" وذلك بدلًا من ترديد عبارات جوفاء رغم ما تحويه ظاهريًّا من قيم براقة – وهي العبارات التي يستهوي الكثير من الغربيين حمل لوائها والترويج لها. وها هي التجارب المعاصرة لشعوب منطقتنا تبرز دليلًا حيًّا على صحة ذلك. فالملكيات العربية المطلقة – حتى تلك منها التي تفتقر للثروة النفطية مثل الأردن والمغرب - قد نجحت وبالرغم من جميع اخفاقاتها في تقديم تجربة لشعوبها خلال القرن الماضي أفضل مما قدمه أي نظام حكم آخر.
وقد نجحت الأنظمة الملكية – وبالأخص في شبه الجزيرة العربية – في انتشال شعوبها من وضعية شديدة التأخر، وأخذتها إلى القرن الحادي والعشرين مقدمةً لها مستوىً جيدًا جدًا من البنية التحتية والتعليم والرعاية الطبية - مدعومة كلها بعقود طويلة من الاستقرار هيَّأت المجتمعات هناك لأن تحتضن تلك المنجزات وتحافظ عليها.
وغنيٌّ عن التذكير أن تلك الأنظمة قد قدمت أيضًا لشعوبها جوازات سفر محترمة ومعترفٌ بها على مستوى عالمي – مما سهل أمور السفر والتجارة والتعليم في الخارج لأبناء المجتمعات المحلية، وهي ميزة يعتبرها الغربيون أمرًا مسلّمًا به – إلا أنها حلمٌ يطمح له ملايين العرب والمسلمين الذين ينتظرون لأوقات ممتدة وفي طوابير طويلة أمام السفارات الأجنبية في محاولاتهم شبه اليائسة للحصول على فيزا من أحد تلك السفارات.
وصحيحٌ أن كل هذا التقدم الذي حصل لم تكن تصاحبه تقريبًا أي حريات سياسية، إلا أنه على الأقل قد نجح تمامًا في إرساء القواعد الصحيحة والأساسية لمجتمعات حداثية.
واليوم، وبعد الانهيار في أفغانستان فإن شعب ذلك البلد بالإضافة إلى شعوب إيران والعراق ولبنان والعديد من بلدان المنطقة الأخرى ذات الحكومات الفاشلة لا يمكنهم فعل شيء سوى النظر والتفكير في شعوب الدول الملكيَّة بشيء من الحسد، وخصوصًا عندما يستذكرون أنظمتهم الفاشلة وحكوماتهم الدينية و"ديمقراطياتهم" المزعومة مع كل ما حرمتهم منه ودمرته في بلدانهم.