اللغز الأفغانى
في ظل ظروف عادية لم تكن لدولة مثل افغانستان أن تمتلك ناصية الاهتمام والإعلام الدولي كما حدث خلال الشهرين الأخيرين حيث اختلطت قصتها السابقة على الغزو الأمريكي واللاحقة بعده وحتى جاء موعد الخروج الأمريكي بما اعتراه من ملابسات، مع الذكري العشرين للأحداث الإرهابية التي جرت في الولايات المتحدة في الحادي والعشرين من سبتمبر 2001. فمن الناحية (الجيوسياسية) البحتة فإن أفغانستان دولة حبيسة، ومحاطة من جميع الاتجاهات بمن هم أكبر وأقوي منها، وفي الشمال توجد ثلاث دول هي تركمانستان، وطاجيكستان، وأوزباكستان، وثلاثتها لديها روابط مع روسيا العملاق مساحة وشعبا وتسليحا، ورغبة في ثأر من هزيمة قديمة. في شمال الغرب توجد الصين، وهذه تطلب دائما التعاون، وهي على استعداد للتعامل مع قوي متناقضة، أما إذا أطلقت لمخاوفها العنان والخاصة بجماعة الإيجور الإسلامية فإن أفغانستان بالنسبة لها خطر محتمل. في الشرق توجد باكستان وهي خلطة من حليف تاريخي لطالبان، وعدو يريد التحالف دائما مع الولايات المتحدة، وفي الجنوب بعد بحر العرب توجد الهند التي لا تريد إضافة جديدة للأصوليات الإسلامية المتطرفة، وفي الغرب توجد إيران التي تريد الاحتفاء بمن هزموا أمريكا، ولكنهم سنة وأصوليون كان لديهم عداء وخصومة مع الشيعة. اقتصاديا هي دولة فقيرة، وربما مرت عليها دورات من محاولات التحديث مرة على الطريقة الاشتراكية تحت الحكم السوفيتي، ومرة أخري على الطريقة الرأسمالية تحت الإشراف الأمريكي والأطلنطي، ولكن مشاهد كابول المرئية مع عودة طالبان لا تشير إلي تغيرات كبيرة تمثل مرحلة فارقة في التاريخ الأفغاني. ورغم الحديث الدائم عن الخيرات المعدنية الكثيرة في الدولة فإن عدم الاستقرار السياسي، واتخاذ قضية التنمية منصة خلفية وراء تكدس التوصيات الخاصة بتقصي الفتنة في النساء والسياسة معا، كليهما مع أمور أخري كاف للقناعة بأن الدولة الأفغانية سوف تحتاج وقتا طويلا لكي تصل إلي مكانة أخري. أفغانستان هكذا سوف تظل لغزا، ولا أحد سوف يعرف عما إذا كانت ستكون منصة للحركات الإرهابية في العالم، أم أن طالبان التي تعتقد أن الدولة ما هي إلا إمارة تعطيها امارة المؤمنين فإنها لن تتواني في الدخول إلي حرب مع التنظيمات الإرهابية الأخرى، ولعل الغزوة التي قامت بها (داعش خراسان) علي مطار كابول إبان الانسحاب الأمريكي، مثلت الطلقة الأولي في هذه الحرب، والمؤكد أنها لن تكون الطلقة الأخيرة. ولكن هناك احتمال ثالث لا يمكن استبعاده وهو أن أفغانستان سوف تندرج فيما تندرج فيه دول العالم الآخر في أن تكون بالفعل جزءا من إقليمها، وليس جسرا لاستضافة احتلال جنود دول أخري. وفي هذا فإن حل اللغز الأفغاني لن يكون حلا عالميا أو دوليا بقدر ما يكون إقليميا تتعاون الدول الإقليمية في البحث له عن مقترب يأخذه إلى عناصره الأولية، ومن هنا تكون أولى خطوات الحل. وكما يقال فإن الانسان لا يختار والديه، وكذلك فإن الأمم لا تختار جيرانها، وفي الحالة الأفغانية فإن هؤلاء الجيران ربما يكونون هم المدخل إلى الكيفية التي يدخل بها العالم إلي أفغانستان دون تعقيد قضيتها أكثر مما هي معقدة.
وقبل فترة قصيرة ظهر فاعل إقليمي جديد في السماء الأفغانية حينما جرت اجتماعات بين منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) التي تقودها موسكو، وكلتاهما في العاصمة الطاجيكية دوشانبي، وفيها ضغطت الصين على روسيا وإيران وباكستان لاتخاذ موقف موحد بشأن أفغانستان، مع التركيز على محاسبة الولايات المتحدة على الفوضى في الدولة التي مزقتها الحرب ووقف التهديدات الأمنية للدول المجاورة. ودعا الرئيس الصيني (شي جين بينج) إلى التوجيه لدفع حركة طالبان الأفغانية لتحقيق الشمول السياسي الأفغاني واحترام سيادة أفغانستان. وقال (شي) إن المجتمع الدولي يجب أن يترك مختلف الناس في أفغانستان يأخذون مصير أمتهم بأيديهم، على أساس احترام سيادة البلاد وأراضيها. وقال شي: (يجب أن نبدأ التفاعل مع الأحزاب المختلفة في أفغانستان، وأن نوجه النظام الجديد للأمة ليكون أكثر انفتاحًا وشمولية). دون تسمية الولايات المتحدة، قال شي: إن الدول التي تسببت في الفوضى يجب أن تتعلم درسًا وتشارك المسئولية عن مستقبل أفغانستان. كما طلب (شي) من أفغانستان اتخاذ إجراءات صارمة ضد الجماعات الإرهابية والقضاء عليها من جذورها ومنعها من تشكيل تهديد للدول الأخرى. الدعوة الصينية هنا هادئة ومحسوبة بدقة، وهي تبدأ بالتعاون مع دول إقليمية لها مصلحة مباشرة في أن تكون أفغانستان هادئة لا تشكل تهديدا لا أيديولوجيا ولا سكانيا للدول المجاورة، اما ان تكون جسرا للتعاون مع الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة في عملية إعادة تعمير أفغانستان. الرسالة هنا أيضا صارمة، أنه لا أحد يريد أفغانستان ساحة مضيافة للإرهاب والإرهابيين، وحتى تكون هناك مسئولية فإن أفغانستان مفوضة تحت حكم طالبان في أن تكون ذات سيادة كاملة على أراضيها، ومع المسئولية توجد الإدارة الرشيدة للدولة. في هذا فإن الطريقة الصينية ومعها دول الجوار الأفغاني، لا تعطي محاضرات لا في الديمقراطية ولا في الليبرالية فأهل مكة أعلم بشعابها، والرشد في الحكم دلالته تحقيق الاستقرار، وألا تكون الدولة صداعا في رأس جيرانها. فهل ينجح جيران أفغانستان في مأربهم وحل اللغز الأفغاني أم أن الليلة لا تزال في بدايتها، وأن الحديث الصيني مع الجيران هو مجرد انطلاقة البداية التي سوف يتلوها ما هو أكثر خاصة أن جوهر الرسالة لا يختلف كثيرا عما تريده الولايات المتحدة من استقرار في الدولة مع استبعاد للإرهاب؟.
نقلاً عن "الأهرام"