هل من عبرة للعرب في دراسة تاريخ ألمانيا؟
إن اهتمامي بتاريخ ألمانيا ليس اهتماماً بتاريخ الحروب، إنما هو اهتمام بتاريخ الفكر الإنساني الذي تساهم معاناة البشر من ضيم الحروب في تشكيله. وقد ساهمت معاناة الشعب الألماني من الحروب الطائفية أولاً، التي انتهت بمعاهدة وستڤاليا عام 1648، ثم معاناتهم من الغزو الفرنسي في القرن التاسع عشر، ثم غزوهم لفرنسا عام 1870، في تشكيل هذا الفكر الإنساني. ويمكن القول إن تاريخ ألمانيا في القرن التاسع عشر كان مطبخاً للفكر الإنساني. فقد شهد هذا القرن السنوات الأخيرة من حياة الفيلسوف إيمانويل كانت، وفيه قدّم هيجل عطاءه، وتأسس فيه علم الاجتماع على يد عمالقة مثل جورج سيمل وماكس فيبر. وفي هذا القرن قدّم كارل فون كلاوسفيتز، في كتابه الشهير «حول الحرب»، أهم عمل نظري في الاستراتيجية العسكرية، الذي يدرس في كليات ادارة الاعمال، اضافة الى الكليات العسكرية. وأكثر ما يقتبس من هذا الكتاب قول كلاوسفيتز «ما الحرب إلا ممارسة للسياسة بوسائل أخرى».
وفي هذا القرن اكتملت شبكة القطارات في ألمانيا وكل أوروبا، الذي أدى إلى تطوّر صناعة الحديد الصلب. وفي هذا القرن اخترع غوتليب دايملر السيارة، وفي نهايته اخترع الألماني رونتغن الأشعة السينية X-Ray، متوجاً اختراعه بنيله أول جائزة لنوبل في الفيزياء في عام 1901. وفي هذا القرن ولد وعاش ومات الألمانيان كارل ماركس وفريدريك إنجلز، اللذان غيّر فكرهما خريطة العالم. وكلاهما عاشا سنوات طويلة في لندن هرباً من المخابرات البروسية (الألمانية) وماتا فيها.
وأذكر أنه في عام 1983، سافرت إلى ألمانيا في أول رحلة عمل، وكنت قد زرتها سائحاً عام 1980. وكنت في ضيافة المدير والمالك لشركة تنتج المواد العازلة في مدينة فُوبِرتَال Wuppertal، التي تقع على بعد ساعتين ونصف الساعة بالسيارة شمال غرب فرانكفورت. وأثناء تناولنا العشاء، انتقل الحديث إلى السياسة والتاريخ، فسألني هذا المدير إن كنت قد سمعت بفريدريك إنجلز، فأخبرته: طبعاً، فهو صاحب كتاب «في أصل العائلة»، الذي يعتبر عملاً ريادياً في علم الانثربولوجيا. كما نشر عن الاغتراب في الفكر الماركسي، وهو مشهور بأنه صاغ «البيان الشيوعي» مع كارل ماركس. وتساءلنا: كيف أصبح ابن العائلة الثرية، الذي يملك مصانع للنسيج في ألمانيا وإنكلترا، شيوعياً؟ وفي نهاية حديثنا سألني إن كنت أرغب في زيارة منزله، الذي ولد وعاش فيه في بارمن الملاصقة لمدينة فُوبِرتَال. فزرته برفقته في اليوم التالي. وأود أن أوضح هنا أن اصطلاح الاغتراب في الفكر الماركسي ليس بموضوع يخص الفكر الماركسي فقط. فالموضوع يتعلّق بشعور العامل بالغربة كون رب العمل يتجاهل مساهمته في اتخاذ القرارات التي تخص الإنتاج وغيره، مما يزيده إحباطا. لذا عندما نتحدث عن الإثراء الوظيفي، فإننا نتحدث عن مقاومة الاغتراب الذي نشر حوله كل من إنجلز وماركس. ولعلها مفارقة اني أول مرة سمعت فيها عن الاغتراب في الفكر الماركسي كان في جامعة متشيغان في آن أربر في درس في الهندسة الصناعية في خريف عام 1975. وكان الموضوع عن كيف أن شركة فولفو في مالمو في السويد غيّرت من تصميم خط إنتاج السيارات لتثري وظيفة العامل لكي لا يشعر العامل بالغربة.
وبعد عشر سنوات من زيارة منزل إنجلز، أخذني عملي إلى مدينة تيرير Trier التي تبعد ساعتين بالسيارة غرب فرانكفورت. وكنت أعرف من كتاب جون غاليبريث The Age of Uncertainty أن كارل ماركس ولد فيها. وأخبرني مدير الشركة التي زرتها أن المدينة كانت تجذب سياحاً من أوروبا الشرقية، لكن بعد سقوط جدار برلين اقتصر السياح على قليل من الصينيين. وأذكر أن جون غاليبريث وصف ماركس في كتابه بالرومانسي، لكن رومانسيته لم تكن موجهة إلى امرأة، وإنما إلى الطبقة العاملة في ألمانيا. وأرى أن ماركس قد حقق حلمه في تحسين أحوال الطبقة العاملة، لكن ليس في الصين وكوريا والاتحاد السوفيتي السابق، وإنما في ألمانيا المعاصرة. فراتب العامل على خط إنتاج سيارات المرسيدس في شتوتغارت يبلغ 60 ألف يورو سنوياً. هذا وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 26/9/2021. ويشكّل العمال %50 من أعضاء مجلس الإدارة المشرفين على الإنتاج، ويتمتع العامل بإجازة لمدة شهرين سنوياً. كما أن الخدمات الصحية في ألمانيا مجانية.
واهتمامي بتاريخ ألمانيا يرجع إلى أن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى هي التي صنعت حدود العالم العربي كما هي عليه الآن. فقد تم توقيع اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 بعد أن تأكد وزيرا خارجية البلدين من هزيمة ألمانيا، وبعد أن اكتمل احتلال قوات هذين البلدين كل العالم العربي. واهتمامي بتارخ ألمانيا يرجع إلى أن التنكيل باليهود في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية هو الذي صنع إسرائيل كما هي عليه الآن، قاضياً على فرصة إنشاء دولة ينتمي إليها العرب واليهود. فالهولوكوست هو الذي أعطى «شرعية» لتأسيس دولة لليهود في فلسطين بدعم من الدول العظمى. وقبول ألمانيا لتكون موطناً لمليون لاجئ عربي جزء منه إزاحة تأنيب الضمير في العقل الجمعي الألماني، الذي يعرف أن التنكيل باليهود في ألمانيا سهّل على اليهود أن يتصرفوا بوحشية تجاه الفلسطينيين
نقلاً عن "القبس"