ترتيب العلاقات بدول الخليج: أي هويّة للبنان؟
حين توجه رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي الى قصر بعبدا، صباح الأربعاء في 27 الجاري، للبحث مع رئيس الجمهورية ميشال عون في موضوع تداعيات المواقف التي أطلقها وزير الإعلام جورج قرداحي، ومسّت دول الخليج العربي في العمق، من خلال مقاربته الأزمة اليمنية خاصة، قوبل طلبه إقالة قرداحي تجنباً للتداعيات السلبية لدى الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي بالرفض.
خرج ميقاتي الى الإعلام معلناً رفضه وعون كلام قرداحي، إنما مقدماً تبريرات في الوقت نفسه بأن كلام الأخير الى برنامج تلفزيوني عربي سبق توزيره. وسجل مراقبون ملاحظتين على ميقاتي في هذا الصدد. أولاهما أن حديثه عن موقف مشترك وواحد له ولرئيس الجمهورية وفّر على الأخير أن يعلن موقفاً ضرورياً وواضحاً تسمعه الدول الخليجية من رأس الدولة في المبدأ لجهة رفضه المساس بها، فيما ميقاتي هو رئيس السلطة التنفيذية، وكان له موقف مستقل رافض قبل ذلك. الملاحظة الثانية، وإن دلت الى توافق بينه وبين رئيس الجمهورية، فإنما أظهرت ضعفاً في موقع رئاسة الحكومة إزاء إبراز المخاطر التي تترتب على موقف قرداحي، والإصرار على معالجة الموقف بغير الطريقة التي عولج بها. فالمؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الإعلام كان يحمل تحدياً واضحاً ومقصوداً، لا يشي بأن هذا موقف وزير بل موقف جهة سياسية تحمي موقفه وتدافع عنه في وجه أي إجراء يمكن أن يتخذ بإقالته، وتمنعه أيضاً من الاستقالة. قال قرداحي: "لا يجوز أن يكون هناك من يملي علينا ما يجب القيام به من بقاء وزير في الحكومة من عدمه"، في رد واضح على المطالبة بإقالته، علماً أنه على المستوى الشخصي لا يمتلك أي حيثية، بل تمت تسميته لموالاته الرئيس السوري بشار الأسد ولدعمه "حزب الله". وكان يمكن أن يعتذر على الأقل فيوفر بعض وطأة تداعيات موقفه السلبي على الحكومة وعلى لبنان ككل، ولكنه رفض الاعتذار وتالياً استيعاب الأزمة.
وغالباً ما استعان النظام السوري إبان وصايته على لبنان بشخصيات مسيحية موالية له، للاختباء وراء شعار احترام التوزيع الطائفي في لبنان، في حين أن المشكلة كانت في الولاء السياسي لا الطائفي. تبعاً لذلك، لم تتوقع مصادر سياسية أن يمتلك رئيس الجمهورية القدرة على إقالة وزير الإعلام، حتى لو كان محسوباً في المبدأ على خصم سياسي له هو رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، بينما إقالته أو طلبه من وزير الخارجية شربل وهبة الاستقالة في شهر أيار (مايو) الماضي، وهو كان قد تسلّم منصبه من الوزير ناصيف حتي الذي استقال من حكومة حسان دياب قبل يوم واحد من انفجار مرفأ بيروت، على خلفية إساءة مماثلة للدول الخليجية، إنما تبرر بأن وهبة محسوب عليه وحكومة دياب مستقيلة ويجري البحث في تأليف حكومة جديدة.
أخذت السلطة في لبنان قرارها إذاً بعدم إقالة قرداحي أو مطالبته بالاستقالة، سواء أكان ذلك متاحاً للحكومة أم لا. ولكن هذه النقطة تعني أيضاً، وكما بات واضحاً لأي مراقب موضوعي، أن الحكومة ليست مستقلة، بل تكاد تكون مماثلة للحكومة التي سبقتها. فتأليفها تعمّد بعبور صهاريج من النفط الإيراني عبر المعابر غير الشرعية مع سوريا الى لبنان لمصلحة "حزب الله"، فيما قاد تطور التحقيق العدلي في انفجار المرفأ الى رفع الثنائي الشيعي، المكوّن من حركة "أمل" برئاسة الرئيس نبيه بري و"حزب الله"، المشارك في الحكومة، سقف شروطه وتعليق المشاركة في جلسات الحكومة حتى "تصحيح مسار التحقيق"، بما ينسجم ومخاوفه من أن يطال القرار الظني المرتقب صدوره عن المحقق "حزب الله". وهو ما قاد الى تظاهرات أدت الى حوادث الطيونة، فيما رئيس الحكومة عجز في عز الحاجة الماسة للبنان الى بدء خطة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل وقف الانهيار. وهذه المؤشرات، الى جانب المواقف التي أضافها وزير الإعلام، قدمت الإثباتات على أن الرهان على أن الحكومة اللبنانية تمتلك حداً أدنى من الاستقلالية، وتالياً الحرص على استعادة علاقات جيدة مع الدول العربية والخليجية تحديداً لا يبدو في محله في الظروف الراهنة. لا بل إن الحكومة الحالية كما الحكومة السابقة تخضع لنفوذ "حزب الله"، وتالياً تبطل الحاجة الى التعويل عليها أو إعطائها فرصة إضافية للتثبت من برنامجها أو خطتها.
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن الرسالة الخليجية كانت واضحة جداً في استدعاءات فردية لكل دولة للقائمين بأعمال السفارات اللبنانية لديها، وتسليم كل منهم رسالة اعتراض على موقف وزير الإعلام، وتالياً تعاطي الحكومة مع الأزمة التي تسبب بها وليس عبر موقف من مجلس التعاون الخليجي فحسب. وهذا قاس جداً على لبنان الذي يستخدم في إطار الكباش الإقليمي والدولي على حد سواء، تحت وطأة مخاوف إيران من نتائج الانتخابات في العراق التي أظهرت تراجعاً للتنظيمات الموالية لها.
والإشكالية الكبيرة باتت تتعلق بكيفية معالجة هذه الأزمة، وبأي آلية إذا وجدت الإرادة لإعادة ترتيب العلاقات مع الدول الخليجية، ليس من فئة أو فئات معينة طائفية أو سياسية لا تستطيع الضغط على الحكومة أو على السلطة ككل من أجل القيام بذلك، بل من أهل السلطة مجتمعين. وهذا قد يكون صعباً جداً في ظل الحكومة الانتقالية الحالية، وقبل أن تتألف حكومة معبرة فعلاً عن توازنات سياسية حقيقية بالحد الأدنى، أو قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي الذي يعتبر في رأي دول عربية عدة مسؤولاً عن تغطية مواقف معادية للدول العربية، ولعب دوراً مهماً في هذا الإطار عبر رئيس تياره جبران باسيل الذي تسلم وزارة الخارجية، ولاحقاً عبر تسمية من ينوب عنه، إذ بات هامش الحركة ضيقاً أمامه ما دام القرار السياسي في البلد ينحو في اتجاه عدائي لهذه الدول. لا بل إن المراقبين يستشهدون بعبارة واضحة لوزارة الخارجية في دولة الإمارات التي اعتبرت التصريحات المماثلة لتصريح قرداحي "تنم عن الابتعاد المتزايد للبنان عن أشقائه العرب" للدلالة الى الرؤية للمسار اللبناني على مستوى السلطة. وهو أمر يناقض جداً توجه المواطنين اللبنانيين الذين، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الصعبة، باتوا أكثر توجهاً الى الدول الخليجية، فيما أهل السلطة لا يقيمون وزناً لكرامة مواطنيهم ومصلحتهم، بل يقدمون مصالحهم الشخصية والسياسية فحسب.
نقلا عن "النهار"