معارك بين الحروب
وصف رئيس الوزراء الإسرائيلى نيفتالى بينيت سياسة حكومته تجاه إيران بأنها حرب باردة هدفها إنهاك النظام الإيرانى، مثلما فعلت الحرب الباردة التى طبقتها أمريكا ضد الاتحاد السوفيتى ووصلت إلى ذروتها فى عهد الرئيس رونالد ريجان فى ثمانينات القرن الماضى وأدت إلى انهياره.
لكن الهدف المباشر للحرب الباردة الإسرائيلية لا يتحدث عن انهيار النظام فى إيران فى مدى زمنى قريب، بل عن إبطاء الجهود الإيرانية لصنع قنبلة نووية، حتى لو تطلّب الأمر عشر سنوات.
الحرب الباردة بين طرفين متكافئين عسكرياً إلى حد كبير تعنى، باختصار، ممارسات عدائية متبادلة فى مجالات الدبلوماسية والاقتصاد والدعاية لغرض التأثير على قوة الخصم ومنعه من تحقيق تقدم فى مجالات قوته الرئيسية، ولا تعنى بالضرورة أنها ستؤدى إلى سقوط النظام الخصم.
ومعروف أن المؤرخين الروس، أو السوفييت سابقاً، يرون أن السبب الرئيسى لانهيار الاتحاد السوفيتى ليس الضغوط الأمريكية المباشرة، بل ما يسمونه خيانة الرئيس جورباتشوف وسياساته التى أدت إلى تفكيك الاتحاد، وهو تفسير يمكن الرد عليه، ولكنه يشير إلى نقطة مهمة تتعلق بسلوك القيادة ومدى قابليتها للخضوع لابتزاز الطرف الخصم، وتحقيق أهدافه بسهولة رغم أن لديه قدرات مناسبة تساعده على الصمود والرد بقوة على كل الاستفزازات التى يتعرض لها.
عنصر القيادة، بما فى ذلك مجمل النخبة الحاكمة، يمثل فى الحروب الباردة بُعداً مهماً فى استشراف نتائجها المحتملة. والواضح فى الحالة الإسرائيلية الإيرانية، وعلى النحو الذى تتفاعل فيه ممارسات تلك الحرب الباردة على الأرض، أن كلتا القيادتين فى البلدين على القدر نفسه من الإصرار على عدم التراجع عن أهدافها، سواء بالنسبة للمضىّ قُدماً فى البرنامج النووى الإيرانى من قبَل قيادة طهران، أو تدمير هذ البرنامج كلياً أو تعطيله تماماً بما لا يمكنه من الوصول إلى امتلاك قنبلة نووية كما لدى إدراك قيادة إسرائيل، ولا يوجد فارق هنا بين يمين ويسار، أو إصلاحيين معتدلين فى مواجهة متشددين. والمحصلة على هذا النحو أن الحرب الباردة كاستراتيجية إسرائيلية لن تكون حاسمة إلا فى مجال استنزاف القدرات الإيرانية اقتصادياً.
ويلاحظ أنه فى الداخل الإسرائيلى توجد انتقادات لمثل هذه الاستراتيجية وتطبيقاتها التى لم تؤدِّ إلى إنجاز أهدافها المعلنة. على سبيل المثال، فإن العمليات السيبرانية الإسرائيلية التى تستهدف تعطيل بعض المرافق الحيوية كمحطات الوقود أو قطارات السكك الحديدية أو محطات المياه أو الموانئ، وإن أثارت بعض الدفء لدى الإسرائيليين، وفقاً لتعبير المحلل العسكرى الإسرائيلى ألون بن ديفيد، فى مقال له بصحيفة «معاريف» العبرية، وأدت إلى بعض المصاعب الحياتية لدى الإيرانيين، أفراداً ومؤسسات، فمن المشكوك فيه أن تؤدى إلى إثارة الطبقة المتيسرة الإيرانية، أو ما يصفه المحللون الاستراتيجيون الإسرائيليون بـ«مجتمع القشطة» الإيرانى ضد الحكومة، كما أنها لم تضف شيئاً إلى ميزان القوى لصالح إسرائيل، ناهيك عن أن إيران لديها قدرة الرد المضاد، حين نجح قراصنة إيرانيون يُعرفون باسم «الظل الأسود» فى الوصول إلى أرشيف سرى عسكرى ونشروا بعض محتوياته.
كانت إسرائيل فى غضون العامين الماضيين قد بدأت هجمات ضد سفن إيرانية مدنية تجارية حاملة للنفط، بعضها كان متجهاً إلى سوريا، وردت عليها إيران باستهداف سفن إسرائيلية أو يشارك فى ملكيتها إسرائيليون أو تديرها شركات إسرائيلية، ما دفع تل أبيب إلى مراجعة هذه السياسة والتوقف عنها نظراً للتفوق النسبى الإيرانى فى هذا المجال من العمليات فى أعالى البحار، وخاصة فى المناطق القريبة من الخليج وبحر العرب، والتى لا تملك فيها إسرائيل أية إمكانات للعمل أو توفير الحماية للسفن الإسرائيلية رغم محدودية عددها.
ووفقاً لمحللين إسرائيليين فإن التراجع الإسرائيلى فى مجال المواجهة البحرية يؤكد أن ممارسة بلدهم لمفهوم «عمليات بين الحروب» ليست ناجحة فى كل المجالات، وأنه بالتالى لا بد من التركيز على المجالات التى تتوافر فيها ميزات نسبية إسرائيلية مثل الهجمات الدائمة على سوريا، التى تستهدف التموضع الإيرانى فيها وعمليات نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله اللبنانى عبر سوريا.
وتدل هذه الانتقادات على أن هناك فجوة كبيرة بين ما تعلنه إسرائيل كاستراتيجية حرب باردة لمواجهة إيران وبين قدرتها على تحقيق مجمل أهدافها المعلنة. ولكن هناك من يرى ضرورة انتهاج أسلوب أكثر شراسة ضد إيران، أى حرب شاملة برية وسرية وجوية، أبرزهم المحلل العسكرى ألون بن ديفيد.
وتأتى الدعوات إلى تبنِّى أسلوب المواجهة الشاملة، بما فى ذلك الهجوم الساحق على المنشآت النووية وحرب برية ضد حلفاء إيران المحيطين بإسرائيل، وتحديداً حزب الله اللبنانى، كبديل لمفهوم «عمليات بين الحروب». وتبدو هذه الدعوات مؤثرة إلى حد ما، فقد خصصت إسرائيل 1.5 مليار دولار فى ميزانية وزارة الدفاع البالغة 17.5 مليار دولار للعام 2022 للتدريب على شن حرب شاملة ضد إيران، براً وجواً، وسيتم التدريب على مدى عام كامل. كما نفذت مناورة كبرى شاركت فيها كل قطاعات الجيش الإسرائيلى وفق سيناريو حرب متعددة المستويات والجبهات ضد إيران. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلى بينيت، أثناء زيارته لواشنطن فى أغسطس الماضى، ولقائه مع الرئيس بايدن، قد طلب مليار دولار كمنحة أمريكية لتطوير منظومة القبة الحديدية المضادة للصواريخ، ولم توافق عليها واشنطن بعد.
واقع الحال أن الموقف الأمريكى الحاسم فى عدم الحرب مع إيران، والإصرار على الدبلوماسية والمفاوضات لمنعها من امتلاك أسلحة نووية، يجعل احتمال قيام إسرائيل بحرب شاملة ضد إيران منفردة وبدون مشاركة فعالة من الولايات المتحدة من قبيل المستحيلات.
ولذا يمكن النظر إلى الاستعدادات الإسرائيلية المعلنة تفصيلاً للحرب ضد إيران باعتبارها من قبيل الضغوط على واشنطن لإجهاض الدبلوماسية مع طهران، والعودة مرة أخرى إلى سياسات الرئيس السابق ترامب المسماة بالضغط الأقصى، وبالتالى دفع وشنطن إلى التفكير الجاد فى مبدأ الحرب ضد إيران. وحتى اللحظة لا توجد مؤشرات على أن إدارة بايدن والكونجرس الأمريكى بغالبيته الديمقراطية قد يخضعان لهذا الابتزاز الإسرائيلى المكشوف.
* نقلا عن " الوطن"