خطاب المصالحة: حنكة القرار واتزان الرؤية

جميلة بنت عبدالله
نشر في: آخر تحديث:
وضع القراءة
100% حجم الخط

لم يكن ما حدث هذا الأسبوع من إعلانٍ للاتفاق السعودي-الإيراني على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مفاجئا، فالقارئ للمشهد السياسي يدرك أن مثل هذه الخطوة لا بد أن تتم وإن طال أمدها، ذلك أن سياسية المملكة العربية السعودية منفتحة على الجميع من خلال الحوار البناء الهادف إلى تحقيق السلام العالمي، يضاف إلى ذلك ما لحق إيران من أضرار جراء هذا الانقطاع في العلاقات خاصة مع دولة بحجم السعودية ونفوذها العالمي القوي والمؤثر.
لقد جاء الخطاب السعودي الذي ألقاه معالي الدكتور مساعد العبيان محكما متزنا، محدد الماهية والكيفية. الماهية في استراتيجية الدولة في علاقتها مع جميع دول العالم، والكيفية التي تسير عليها السياسة السعودية الخارجية المتزنة منذ تأسيس هذه الدولة وصولا إلى العهد السلماني، وإشارة الخطاب في مقدمته إلى قيادة المملكة يعطي دلالة صريحة للمتلقي بأنه خطاب القيادة.
حدد الخطاب ماهية العلاقة الجديدة التي طرأت بين البلدين بما نصه: "تطوير علاقات حسن الجوار بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية"، ما يشير بطريقة إلى أن هناك عدد من الممارسات لا يمكن القبول بها، والتي تتنافى وعلاقات حسن الجوار أو تتعدى حدودها إلى الإساءة بالعلاقة الجوارية التي تربط بين البلدين، كما أنه يشير كذلك إلى أن السياسة السعودية هي سياسة منفتحة على الجميع ومتطورة.
ثم أكدّ الخطاب على أن المملكة منذ تأسيسها تمتلك منهجا ثابتا يلتزم بمبادئ حسن الجوار والتي تتضمن تحديدا ضمان الاستقرار في المنطقة والعالم، وهي نقطة مهمة نصّ عليها الخطاب، فالتدخل في شؤون الدولة، ومحاولة المساس بأمنها هو خطُ أحمر لا يمكن القبول به بأي شكل من الأشكال، وهو ما يتنافى والقوانين والأعراف الدولية التي تؤكد على حق احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة.
إن ماهية الخلاف بين البلدين كان قائما- وفقا للخطاب - على محاولة انتهاك إيران لسيادة المملكة العربية السعودية، خاصة بعد أن قامت الأخيرة من خلال بعض المتظاهرين بالهجوم على السفارة السعودية في طهران أمام مرأى العالم أجمع، كما أن سياستها كانت موجهة لمحاولة التدخل في شؤون المملكة وزعزعة أمنه الداخلي.
وكما هو ملاحظ لم يتطرق الخطاب إلى الممارسات الإيرانية الداعمة للحوثي والتي تحاول زعزعة الأمن في الداخل السعودي على مرأى من العالم وبدعم صريح من إيران، كما أنه لم يتطرق إلى تدخل إيران في الدول المجاورة والتي تؤدي زعزعة الأمن فيها إلى اضطراب المنطقة، والخطاب بذلك التجاوز لهذه الأمور كلها يدّل دلالة واضحة على قوة صدق نوايا المملكة السياسية في اتجاهها لهذه الاتفاق مغلبة في ذلك مصلحة الأقليم والعالم وتعزيز ركائز الأمن والاستقرار فيهما. المنطقة وتشكيل بؤرة تهديد للحدود السعودية.
أما عن الكيفية التي انتهجتها المملكة للتعامل مع هذه المبادرة فقد ارتكزت على عدد من المحاور المهمة تتمثل في الآتي:
- انتهاج الحوار والدبلوماسية في حل الخلافات، ذلك الحوار المؤسس على توّجه المملكة نفسها بما لا يمس سيادتها، وهذه الدبلوماسية في محاولة تغليب المصلحة العامة دون التفريط بحقوق الدولة، وتمثلها الوساطة الصينية بعد وساطة دولتين هما سلطنة عمان وجهورية العراق، ما يدّل على أن الصين كما أشار إليه الخطاب تعد في الوقت الراهن الجسر الذي تسير عليه هذه الاتفاقية.
- تم إجراء عدد من المباحثات " المتعمقة" والمراجعات "المستفيضة" – وفقا لنص الخطاب- وصولا إلى هذه الخطوة (الاتفاق)، بعد رصد مسببات الخلاف والسبل التي يمكن من خلالها حل هذه الخلافات، والتي هي بالأصل – أي المسببات- واضحة أمام العالم وشركاء الوساطة من مثل التدخل في الشؤون الخاصة للدول، ودعم المليشيات التي تسهم في زعزعة استقرار بعض دول المنطقة، كما تعني هذه الخطوة أن هناك مقاومة من جمهورية إيران للاعتراف ببعض الممارسات التي تنتهجها ضد دول المنطقة، وهذا ما تشير إليه جملتي " مباحثات متعمقة ومراجعات مستفيضة " أي أن المملكة قامت بتحديد جميع الممارسات التي تخصها والمنطقة، ووضعها على طاولة المفاوضات في تحدٍ واضح وبيان تام على أن المقاطعة للعلاقات الدبلوماسية هو الخيار الوحيد أمام محاولات الانتهاكات والخروقات، كما يدل الخطاب على أن هذه المبادرة لم تخضع لأي ضغوط أو تغير في المواقف، ولم تكن رهينة أي ضغط من الضغوطات الآنية، بل أنها جاءت عن قناعة كاملة ضمنت للملكة حقها واعتبارها، في ظلّ حاجة إيران بعد تراجع حالتها الاقتصادية والأمنية في الداخل والخارج وهو ما دفع بهم أيضا إلى التلهف لطاولة المفاوضات .
- إن منح المملكة العربية السعودية لجمهورية إيران أفضلية البدء بالعلاقات في صفحة جديدة تعني أن المملكة قد تعفو وتتجاوز عن الانتهاكات السابقة في حقها شريطة " أن تقوم إيران على الاتزان في سياستها والالتزام بمقاصد ميثاقي الأمم المتحدة ومنظمة العالم الإسلامي والمواثيق والأعراف الدولية"، وهذا يعني تخلي إيران عن دعم الحوثي والمليشيات الإرهابية الأخرى في دول المنطقة، كما يعني تجاوز المملكة وتصالحها مع الجميع شريطة تأكيد الالتزام باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم مع ضمان استمرارية الحوار البناء للوصول إلى اتفاقية شاملة.
لقد اثبت الخطاب حرص الدبلوماسية السعودية على مصلحة الوطن والمصلحة العامة للمنطقة من خلال منح الجميع فرصة التراجع عن ممارسته الخاطئة مع موافقتها المشروطة، كما أنها اعتمدت الحوار والدبلوماسية لتمكين هذا الاتفاق الذي حرصت عليه دول الجوار ممثلة في جهود جمهورية العراق وسلطنة عمان، وأكدت على أن الدعم الصيني لهذه المبادرة هو مثمن وله قيمته؛ نظرًا لما تحمله الصين من نفوذ عالمي وقوة عظمى، فهي عضو أساس في الأمم المتحدة، وتتمتع سياستها الخارجية بعلاقات متميزة مع أغلب دول العالم، كما أن لها علاقات ومصالح وطيدة مع المملكة العربية السعودية، وكذلك دول الخليج العربي بالإضافة إلى مصالحها مع إيران.
إن هذا الاتفاق سيفضي بالطبع إلى أن يحدّ من تدخلات إيران، غير المشروعة والمستمرة، والتي تهدد السلام والأمن الدوليين، وسيجعل السياسة الإيرانية في المرحلة القادمة مكشوفة أمام مرأى العالم كله في أي محاولة تهدف إلى زعزعة ذلك السلام أو الأمن الدوليين.
إن السعودية بهذا الخطاب تؤكد للعالم أنها مشرعة أبوابها للجميع دون المساس بمصالحها ومصالح المنطقة، أو المس بأمنها ، كما أن منح الصين صلاحية الجسر بين البلدين يؤكد على اهتمامها الرامي إلى جمع اللحمة الإسلامية، ما يحقق مصالح المنطقة العربية في إنهاء الصراعات في المنطقة، حتى إذا اكتملت الرؤية السعودية في هذا الشأن؛ يصبح الشرق الأوسط جديدًا وفق مصالح المنطقة لامصالح غيرها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
انضم إلى المحادثة
الأكثر قراءة مواضيع شائعة
  • وضع القراءة
    100% حجم الخط