حاضنة الأمراض تعيش بيننا
تتناقص إصابات وباء كورونا في المملكة يوماً بعد يوم، وذلك بفضل الله، ثم بدعم القيادة غير المحدود لوزارة الصحة سواء في توفير المبالغ اللازمة لمكافحة الوباء، أو فيما وافقت عليه من إجراءات صارمة منذ بداية انتشار الوباء تمثلت في عزل شبه كامل عن العالم الخارجي وحظر جزئي ثم حظر كامل، مع إغلاق المدارس والمساجد، وإغلاق المصانع والمتاجر رغم ما يمثله ذلك من خسائر اقتصادية كبيرة، لكنه أسفر عن نتائج إيجابية كثيرة في مجال الصحة، حيث استمر التناقص في عدد الإصابات وزيادة حالات التعافي والحمد لله.
هذه الإجراءات التي لم يسبق لها مثيل على مستوى العالم، تعطينا درساً مهماً، وهو أن مواجهة الوباء في بداياته وبحزم هي أفضل وسيلة للتغلب عليه، لكن ماذا لو جاء الوباء على مهل ودون ضجيج يمشي على أطراف أصابعه كي لا يوقظ الوعي ولا يستنفر الجهود، وهو ما حصل لنا مع داء خطير، والغريب أننا بكل جهل ولا مبالاة نفتح له أفواهنا وجيوبنا ليستوطن أجسامنا ويتمدد في كل زواياها، نشتري بأموالنا كل ما يساعد على زيادته وانتشاره.
عدو صحتنا اليوم ليس وباء كورونا رغم خطورته، فهذا العدو أعلن عن نفسه بكل الوسائل المتاحة، وجاء هجومه صاخباً، ورأينا نتائج إصاباته في دول استقبلته قبلنا، لكن العدو المقيم بيننا هو "داء السمنة" الذي تبلغ ضحاياه أربعة أضعاف ضحايا كورونا إلى الآن، أي عشرون ألف وفاة سنوياً في المملكة وحدها، كما أشار إلى ذلك تقرير نُشر في جريدة "الرياض" قبل أيام وفي صفحتها الأخيرة. أما على مستوى العالم فيموت بسببها ثلاثة ملايين فرد سنوياً، وتنفق المملكة 19 مليار ريال سنوياً لمكافحة السمنة والأمراض المصاحبة لها، فالسمنة هي الحاضنة للكثير من الأمراض ومنها مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض الكلى وأمراض الكبد وأمراض القلب والشرايين، إضافة إلى بعض أنواع أمراض السرطان كالقولون والبنكرياس والمريء، مع كل ما تسببه السمنة المفرطة من إعاقات بسبب زيادة الوزن وتأثيرها على الركب والعمود الفقري.
وما يدعو للخطر أن المملكة وحسب التقرير المذكور تحتل المرتبة الثالثة على مستوى العالم في السمنة، وثلث سكانها تقريباً مصابون بهذا الداء، والأخطر هو وجود ثلاثة ملايين طفل في المملكة مصابون بالسمنة وهذا العدد هو ما يجب أن ندفع فواتير علاجه لاحقاً، مع ما سيعانيه هؤلاء الأطفال حين يتقدم بهم العمر.
نحن اليوم بين خيارين: إما أن ننتظر على أبواب المستشفيات لاستقبال ضحايا السمنة، وهذا مكلف جداً ويحتاج إلى عشرات المليارات من الريالات إضافة إلى الخسائر البشرية وما يصحبها من معاناة، أو أن نحارب مسببات السمنة كما عملنا مع كورونا التي قدمت لنا درساً عملياً في كيفية مواجهة الأوبئة مهما كلفت من جهد وخسائر مادية.
والمعركة التي يجب أن نخوضها مع داء السمنة تختلف كثيراً عن المعركة مع وباء الكورونا، ذلك أن المعركة مع السمنة حرب طويلة مستمرة يجب أن نخوضها جميعاً ضد عدو تسنده ثقافة التواكل والكسل ونمط الغذاء والعادات المتأصلة والتي تختبئ خلف مسميات كثيرة مستمرئة.
سيكون نجاح وزارة الصحة باهراً لو طبقت الرعاية الصحية الأولية بحزم وعلى الجميع، لتبدأ بوضع خطة وطنية ذات أهداف واضحة وبرامج مكثفة تشترك فيها جميع الوزارات والهيئات المعنية ومنها وزارة التعليم لتصبح المدارس والجامعات أهم ميادين مواجهته، ووزارة الرياضة لتكثف جهودها بجعل الرياضة للجميع، أما الأندية فمصيرها التخصيص، والبلديات التي يجب أن تهيّئ أماكن مشي تصمم بطرق علمية تسمح بممارسة المشي في كل الأوقات والأحوال الجوية، مع زيادة عدد الحدائق الكبيرة لتكون قريبة من الجميع وتشجع على ممارسة الرياضة، أما وزارة الصحة وهي المعنية بتنفيذ هذه الاستراتيجية فتركز مستشفياتها على مكافحة السمنة بين المراجعين وجعل الوزن هو أول ما يؤخذ للمراجع قبل التشخيص، مع المتابعة المستمرة، ورفع الوعي الصحي بكل الأساليب الممكنة.
المملكة بتطبيق استراتيجية طويلة المدى تنفذ بدقة وصرامة ستصبح رائدة على مستوى العالم في مكافحة الأمراض بمنع مسبباتها، كما هي اليوم رائدة في مشاريعها العملاقة وقوتها السياسية والاقتصادية، ومن لديه قيادة بحزم وقوة وحرص القيادة العليا في المملكة يستطيع ذلك بإذن الله.
نقلا عن الرياض